لم يكن أبو مطيع شخصاً عادياً في حياتي، والحديث عنه ونعوته ليس بالأمر السهل على من اعتبرته أباً وصديقاً وموجهاً معلماً، فاليوم أحس باليتم الحقيقي، وأتلمس الفراغ الكبير الذي سيتركه هذا الرحيل المبكر.
سأحاول في عجالة الحديث التحدث ببضع أسطر عن أبو مطيع – وهو الاسم المحبب إليه – إذ كان متواضعاً ذو قلب واسع لا يسعى لشهرة أو منصب رغم أنها كانت متاحة له، ولم يحب ألقاب التعظيم والتفخيم، فكان يقدم نفسه منصور الأتاسي أبو مطيع ناشط سياسي، وكان الهم الوطني دوماً متصدراً اهتماماته.
خلال خمسة عشر عاماً من معرفتي به، خصوصاً في سنوات النفي، حيث كانت جلساتنا شبه اليومية مملوءة بالنقاش والحوار، يشتد أحياناً ويخفت كثيراً، كان صاحب الصدر الواسع الذي يستوعب غضبي وألمي على ما يحصل، موجهاً لي بأن الخلاف بين أفرقاء الثورة خط أحمر لا يجب أن نخطو تجاهه، مطالباً بالبحث الدائم عن المشتركات وترك أي خلافات أو اختلافات لتحل عبر الزمن وعبر الحوارات المستمرة الهادفة إلى تقريب وجهة النظر.
كنت أعاتبه بغضب، ما شأنك بالاتصال بفلان أو المؤسسة الفلانية، لتدعوهم لمبادرة أو حوار أو نشاط ما، وهم من أفشل النشاط، أو التجمع الفلاني بسبب أنانيتهم وعجرفتهم، ونظرتهم بأنهم فوق الجميع، قائلاً له “المكتوب مبين من عنوانه”، فيجيب.. نحن أم الصبي ولا يجب أن نيأس من دعوة الناس، علينا السعي بكل جدية من أجل وحدة الكلمة وتوحيد الصفوف.
في بدايات معرفتي به حدثني أحد الأصدقاء المشتركين في حمص عنه ناصحاً، تعلم من أبو مطيع النشاط والحيوية، ورغم خمسة عشر عاماً من العمل المشترك معه، إلا أنني اعترف أنني لم أستطع التعلم كثيراً، فحتى أمس كنت اتكالياً ولم أكن نشيطاً، وكان الرفيق أبو مطيع يحمل على أكتافه عبء معظم العمل، وأشد ما يفجعني اليوم بفقده حين عاتبني منذ عدة أشهر لقلة نشاطي وطالبني بعدم التوقف عن الكتابة والنشاط، مبدياً قلقه من حالته الصحية، وأنه يخاف أن يموت وهو أمين عام للحزب، وكان يراها معيبة بحقه، وضد مبادئه، فلا يجب أن يكون الكرسي ملتصقاً بالزعيم حتى وفاته، وهذا ما رسخه حين طلب تعديل النظام الداخلي للحزب مطالباً أن تقتصر مدة الأمين العام على دورتين انتخابيتين وبأثر رجعي، كي تكون هذه الدورة الانتخابية آخر دورة له بالحزب، وكان رحمه الله ينتظر انتهاء دورته الانتخابية هذه ليصبح أميناً عاماً سابقاً ليتفرغ لكتابة مذكراته، لكن يبدو أن القدر لم يمهله فعاجله ليضم وردة سورية جديدة إلى الباقة التي ترتقي إلى خالقها.
كان يحدثني عن حقوق الناس التي لا تموت حتى لو قتلهم النظام المجرم، قلت له يا أبو مطيع راحت حلب، قال معلش، فصرخت غاضباً متألماً “يا أبو مطيع شو معلش، عم قلك راحت حلب بتقول معلش؟!” قال بلهجته الهادئة موضحاً ” بابا حتى لو أخد كل سوريا، وياخد على راس البيعة لبنان والعراق كمان، لكنه سيسقط لا محالة وستنتقل سوريا إلى نظام ديمقراطي تعددي شاء من شاء وأبى من أبى، يوجد حقوق للناس ولا يمكن تجاوزها”.
حدثني عن سوريا التعددية التي لا يمكن أن تنصب عليها إله من البشر، فحافظ الأسد وابنه بشار استثناء من حركة التاريخ وليسوا القاعدة، فسوريا تعددية مهما حاول البعض صبغها بألوان السواد، ولو كانت غير ذلك لما شاهدنا كل هذه الفسيفساء الجميلة، وهذا ما أدركه رجالات الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، فعملوا على تجاوزه عبر تشكيل الكتلة الوطنية لتكون مؤسسة تجمعهم وترسخ عملهم بشكل جماعي بحيث تصب كل الينابيع بالنهر العظيم الذي سيكنس الاحتلال.
في حمص قبل الثورة بسنوات دعاني عدة مرات لأكون معهم في هيئة الشيوعيين، وفي أحد الأيام كنا نقطع شارع الكورنيش من حديقة الدبلان باتجاه حي الحمراء فقلت له يا أبو مطيع أنا متدين ولا يمكن أن أكون شيوعياً، فقال لي ضاحكاً بابا أنا من فخذ الشيخ بعائلة الأتاسي، وأهلي كلهم مشايخ وأنا لست بكافر، وقال لي إن أمريكا تحارب اليوم الإرهاب، لكنها تحارب في الحقيقة الإسلام وتعمق الإرهاب، فالإسلام دين العدالة الاجتماعية، دين الأخلاق، دين مكافحة الغش والاحتكار، دين التكافل الاجتماعي، دين احترام الرأي ومحاربة العبودية واضطهاد البشر، وليس دين القتل وقطع الرؤوس كما تظهره أمريكا، ونحن الشيوعيون الورثة الحقيقيون للإسلام ولسنا في عداء معه، نحن نعادي من يتاجر باسم هذا الدين العظيم في بازارات السياسة.
كان – رحمه الله – منذ أن تعرفت عليه يحدثني عن الوراثة السياسية مؤكداً أنها وراثة فكر وليس وراثة نسب، ويحملني أمانة الاستمرار بفكره وعمله، واليوم بعد أن فارقنا أبو مطيع يمكنني التأكيد أنه ترك وراءه حزب اليسار الديمقراطي السوري كمؤسسة كاملة ترث فكره وستسير على دربه حتى ننتصر على الاستبداد وقوى الظلام والتطرف وتطرد كل المحتلين والغرباء عن سوريا التي أحبها فقدم عمره وصحته قرباناً لها، ونؤسس سوريا الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة.
عذراً التعليقات مغلقة