في حانة تضج بالبيض وبعض الملونين الغرباء حملق الجمع في التلفاز الكبير، منتظرين الهدف الأول. هناك في حي لندني بعيد عن “السنتر الكوزموبوليتاني” تشير امرأة أربعينية بعينها إلى القادم الجديد صاحب اللحية الطويلة وهو يطلب شرابه المفضل.
فوبيا الأجانب تتنامى هنا، هكذا تقول العيون. يأتون من كل مكان ومعهم تقاليدهم ولباسهم وطعامهم ومطاعهم التي تأسر لندن فلا تفرق بينها حيناً وبين كراتشي أو الرياض. يشير المعلق الهادئ بخلاف ضجيح الشوالي ودراجي إلى مضي أول ربع ساعة من مباراة تشيلسي وليفربول. جميل، هذه مناسبة جيدة لأفتح حديثاً مع أحدهم، أكلمه ربما عن فخر العرب محمد صلاح وقد رأيت بعضهم في إسطنبول قد زينوا “الستوري” في الإنستغرام بقمصان على ظهرها اسم اللاعب ورقمه.
يلمس صلاح الكرة بينما أتلمس مكاناً فارغاً أجلس فيه فينعته أحدهم بابن (…). بداية غير موفقة، فالقوم يشجعون تشيلسي اللندني على ما يبدو. ربما الحديث عن الفرنسي جيرو أفضل في هذه الحالة، خاصة بعد أن سجل الهدف الأول وضجت معه جموع المتفرجين فرحاً. تستحضرني كل أحاديث الراديو الصباحية وأنا اراقب المشهد عن بعد، انزعاج الإنجليز من أبناء المهاجرين الهنود والباكستانيين الذين يشجعون بلدانهم الأم في لعبة الكريكت، ضجرهم من الهوية المركبة، غضبهم إذا قررت الحكومة إعادة أبناء الجهاديين والجهاديات الموجوديين في سجون الصحراء السورية.
أنزوي وحيداً عائداً إلى كومبيوتري لأكمل ما كتبته صباحاً في منهجية البحث عن أسباب اختيار المقابلات شبه المهيكلة في العمل الميداني. تسجل الأهداف تباعاً، يغضبون تارة ويفرحون تارة وفي كلتا الحالتين يكثر الطلب على الجعة رغم أجواء لندن الباردة والممطرة حتى في صيف آب. ربما لا يعرف هؤلاء أن الدوري الإنجليزي ليس حكراً عليهم. هناك ملايين المجانيين في شتى أنحاء العالم يقاسمونهم فرح وحزن المبارايات.
بين العولمة والحمائية التجارية والتكتل الهوياتي الثقافي يتموضع الناس في نقاشات لا دم فيها ولا طائرات. يناقشون- ببطر الديمقراطية- البريكست الذي تورطوا فيه، فلا خرجوا ولا هم يستطيعون الدخول مجدداً. في حمأة الكرة ودلالاتها أضع حقيبتي على كتفي عائداً وأتمتم في سري عن صعوبة الاندماج واستحالة الاختراق في ظل الموجة الشعبوية العارمة التي تجتاح العالم. أتذكر فتاة خان شيخون التي تستصرخ تعاطف العالم ضد المجازر الأسدية. لن يسمع بها أحد بالتأكيد مع أنها تتكلم الإنجليزية بطلاقة.
تزداد التساؤلات الوجودية لدي في برهة خلتها وقت فراغ وترويح عن النفس. هل على هذه الأرض ما يستحق الحياة فعلاً أم أن أبيات درويش ليست إلا مسكنات ضد الكولونيالية. لن اطيل التفكير؛ ففي المرة القادمة سوف أذهب إلى بيرفيل لأدخن “الأركيلة” جنباً إلى جنب مع باقي العرب الهاربين والتائهين.
عذراً التعليقات مغلقة