يستخدم السوريون كلمة مقلب بمعنى الخدعة، ويقولون أن فلاناً أكل مقلباً بمعنى تعرّض لخديعة جرّاء غفلته أو غبائه، وقد يقولون أن “فلاناً أكل مقلباً بنفسه” في الدلالة على مبالغته في قيمته وإمكانياته، وأحياناً يستخدمون تعبير “شرب مقلباً” للتشديد على سهولة استغفاله.
في زمن الأسود والأبيض اشتُهر مسلسل من بطولة دريد لحام باسم “مقالب غوّار”، وهي مقالب فيها ما فيها من سذاجة المدبِّر لها لكنها تنجح دائماً بسبب سذاجة ضحاياه. المسلسل ذاته صنع القسط الأكبر من نجومية دريد لحام، قبل أن تعوّمه المسرحيات التي كتبها محمد الماغوط ليظهر كأنه ناقد للسلطة ومخابراتها، ثم ليكتشف السوريون مع اندلاع الثورة أنهم “أكلوا مقلباً” بدريد لحام الذي اصطف مع الأسد بلا حياء أو مواربة وكأن مسرحياته الناقدة كانت استئنافاً لمسلسله الشهير والجمهور هو الضحية.
إلى زمن الأسود والأبيض ذاك، ينتمي اتفاق أستانة الأخير “قبل يومين” لوقف شامل لإطلاق النار في سوريا، وهذا التعبير يُفترض أن يتعلق تحديداً بريفي حماة وإدلب الواقعين تحت قصف وحشي من قوات الأسد والطيران الروسي منذ أشهر. الاتفاق الأخير ينضوي ضمن مسلسل يمكن تسميته بـ”مقالب أستانة”، فالخدعة نفسها تمارسها الأطراف ذاتها، والسوريون هم الضحية دائماً. عدة الخدعة بحذافيرها لم تتغير هذه المرة، فبعد الإعلان العام عن الاتفاق من قبل موسكو أتى الإعلان الأسدي عنه مشروطاً بابتعاد ما يسميهم “الإرهابيين” مسافة عشرين كيلومتراً عن خط “وقف التصعيد” والتزامهم التام بوقف إطلاق النار.
نعم، لقد شاهدنا جميعاً ذلك من قبل؛ الابتعاد لهذه المسافة يعني تركها لتنقض عليها ميليشيات الأسد بسهولة حينما تحين اللحظة المتفق عليها مع موسكو وطهران، وحينها ستتولى موسكو اتهام الذي تسميهم أيضاً “الإرهابيين” بخرق وقف إطلاق النار. إذا صدرت أصوات خجولة من الضامن التركي تحمّل قوات الأسد مسؤولية الخرق فلن تبالي بها موسكو التي لا تعتمد سوى روايتها الخاصة، بينما لا تضرب كل التفاهمات فحسب وإنما تخرق كافة المواثيق الدولية. أقوى رد فعل تركي، إذا توفر له غطاء أمريكي مستتر، هو تزويد الفصائل بكميات وفيرة من الأسلحة والذخائر باستثناء مضادات الطيران، ما سيجعل المعركة البرية صعبة على قوات الأسد، لكن الطيران الروسي سيستأنف سياسة الأرض المحروقة انتقاماً، وستتسبب الجولة المقبلة بمزيد من أزمات النزوح، بعدما شهدنا في جولة القصف الأخيرة نزوح حوالي 300 ألف مدني، قسم كبير منهم لجأ إلى العراء ويعيش فيه حتى الآن.
مندوبو الفصائل إلى أستانة يعرفون الخدعة المعدَّة لهم، وممثلو المعارضة “بصرف النظر عن ركاكتها وارتهانها” يعرفون ذلك، والضامن التركي ليس أغبى منهم كي لا يدرك الأمر، بل هو على دراية أعمق من الجميع. هذا التواطؤ على تسويق الخدعة ربما قلّ نظيره، فالعالم قد يتواطأ على تسويق أكذوبة لمرة واحدة ثم على تسويق غيرها، أما تكرار الكذبة ذاتها ففيه ما فيه من استغباء الضحية وعدم احترامها، وفيه أولاً استضعاف مطلق لها بحيث تكون مكرهة على قبولها المرة تلو الأخرى.
هل هناك سبيل آخر لدى الفصائل الواقعة تحت وحشية الأسد وحلفائه من جهة، وتحت رحمة الضامن التركي وخطوط إمداده وحساباته السياسية الخاصة؟ في الواقع لا يوجد طريق ثالث كي تسلكه هذه الفصائل، فإما الاستسلام للأسد وحلفائه أو الاستسلام للسياسة التركية. وكما هو معلوم لا تقتصر الكارثة على فقدان الخيارات المتاحة، فبعض هذه الفصائل لا يملك أصلاً قراره المستقل، والبعض الآخر ينظر إلى سوريا كساحة جهاد أو أرض رباط، إذا خسر فيها ربما تخدمه الظروف في ساحة أخرى. بلا شك، المقاتلون من أبناء الأرض نفسها لهم حسابات مختلفة يغلب عليها ما هو محلي، إلا أنهم ليسوا بقوة الفصائل المرتهنة لقوى دولية وإقليمية، وكما هو معهود كانوا تحت الاستهداف من قبل الفصائل الأقوى حتى جاء الهجوم الروسي الأسدي وصاروا مطلوبين للمشاركة في المعركة.
ضمن السياق المعتاد، أقصى ما تحققه كذبة وقف إطلاق النار هو عدم الشروع في معركة كبرى حاسمة، أي معركة إدلب المنتظرة والمؤجلة. بينما عين موسكو على قضم المساحات منزوعة السلاح في ريفي حماة وإدلب، وفي كل الأحوال يمكن التذرع بانتهاك الفصائل للاتفاق بهدف استمرار القصف الوحشي الذي يستهدف المدنيين أولاً، لأن مصيرهم يشكل عامل ضغط إضافي على أنقرة وعلى الغرب.
معركة إدلب الكبرى تبدو حتى الآن كأنها متوقفة على المفاوضات التركية الأمريكية في ما يخص المنطقة الآمنة التي تطالب بها أنقرة شرق الفرات، والشريط الخالي من الأكراد هو مطلب تركي متفق عليه بين الحكومة والمعارضة وقيادات الجيش. ما قد تحصّله أنقرة من واشنطن على حساب الأكراد ربما سيتعين عليه دفع ثمنه في إدلب، لأن هناك حدوداً للنفوذ التركي مقبولة دولياً ويصعب تخطيها، مثلما هناك هامش ضيق لمناورة أنقرة بين واشنطن وموسكو بحيث لا تستطيع الكسب على الطرفين معاً.
الجولة الأخيرة من أستانة لم تعقد من أجل معالجة جذرية للتصعيد الحاصل، ما تريده موسكو منها إثبات استمرار هذا المسار على الرغم من التصعيد الذي تمارسه، والاستفادة تالياً من القول بوجود عملية سياسية مستمرة وفق رؤيتها التي لا ترى تعارضاً بين التصعيد العسكري والحل السياسي، أو بالأحرى ترى استعادة كافة المناطق مدخلاً للبحث في العملية السياسية لاحقاً. ضمن المتاح لها، لم يعد لأنقرة تصور مختلف جذرياً عن تصور موسكو باستثناء هواجسها الخاصة بالأكراد، ورغبتها في وجود تلازم بين الحل السياسي وإعادة المناطق إلى سيطرة الأسد. حتى في ظل التصعيد الروسي يبدو من مصلحة أنقرة معنوياً القول باستمرار مسار آستانة، بخاصة مع تعثر المفاوضات مع واشنطن حول المنطقة الآمنة.
الأهم على جهة السوريين أن تأجيل المجزرة أفضل من الاستعجال عليها، وتجرّع السم على دفعات أسهل من تجرعه دفعة واحدة. لذا سيبقى من السهل “شرب المقلب” الجديد، لا بسبب السذاجة المفرطة العائدة إلى أيام الأسود والأبيض، وإنما لكون اللون الوحيد المتاح هو لون الدم.
عذراً التعليقات مغلقة