لم يكن مصرع عبد الباسط المأساوي مفاجئاً لأحد. فهذه هي الخاتمة المنطقية التي مضى إليها بتبصر وعناد منذ بداية الثورة. لم يكن بحاجة إلى أوهام إيديولوجية أو تحليلات سياسية أو توقعات مستقبلية ليدرك أن حربه غير المتكافئة مع الوحوش لا بد أن تنتهي بالاستشهاد الذي تمناه.
فقد كانت خيارات أخرى كثيرة أمامه، أبسطها الخروج من سوريا الميئوس منها، كما فعل كثيرون منا، وكانت مساهماته المكشوفة في الثورة كفيلة بأن تفتح له أبواباً لحياة مريحة في المنافي. لكنه لم يفعل. كانت لديه مهمة، وضعها بنفسه لنفسه، هي العمل، بكل ما يتاح له من وسائل، على محاربة النظام الساقط. وهي مهمة مستحيلة في الشروط التي وجد الساروت نفسه فيها، فكان الموت أمامه، بانتظاره في أي لحظة.
سيرة الساروت ملحمية بذاتها، وليست بحاجة إلى نسج أي أساطير مختلقة لتخليدها في رمز. هي سيرة الشاب المفعم بالعنفوان، البسيط، النقي، غير المفتقر إلى لحظات ضعف بشري، ولا إلى أخطاء بشرية، يعرف ما يريد، بلا تعقيدات أو لف ودوران، يعيش الشروط الفظيعة التي يجد نفسه فيها بصبر وثبات، لا يؤجر بندقيته لجهة كما فعل كثيرون، ولا تراوده أوهام عن حل سياسي يعرف أن الوحش القابع في دمشق لا يمكن أن يجنح نحوه، وبخاصة أن «الحل السياسي» المزعوم تتولى إدارة اللعب به دولة المحتل الروسي.
كذلك هي سيرة شاب مفجوع بمقتل أفراد أسرته وتدمير مدينته وحيه على يد وحش دمشق، ولم تحطمه المآسي، فمضى بثبات نحو ما يؤمن به: الموت البطولي.
على رغم اجتماع كل هذه العناصر المهمة بذاتها لصنع رمز وطني، يبقى الأهم هو هذا الإجماع الذي حظي به، حياً وميتاً، وخاصة بعد استشهاده. إجماع قلت سوابقه، يذكرنا برمز آخر صنعه مصرعه، هو الشهيد مشعل تمو الذي اغتالته يد الغدر في خريف 2011، عشية سفره إلى الخارج. يمكننا القول، من هذا المنظور، إن مشعلاً نجا من الاحتراق السياسي الذي سبقه إليه كثير من المعارضين. صحيح أننا لا يمكن أن نعرف شيئاً عن المصير المحتمل لمشعل، لو أنه نجح في الهروب وواصل نشاطه المعارض من خارج الحدود، لكن سوابق الآخرين تضعنا أمام أحد احتمالين: فإما الغوص في السياسة في أطر المعارضة التي رأينا مصائرها المؤسفة، أو النأي بالنفس عن أوساخ السياسة، ليصبح محكوماً بالشلل والنسيان. الاختيار بين المصيرين متاح لكل شخص، وهو يتحدد بأخلاقيات الشخص أكثر مما بفهمه للسياسة والعمل السياسي.
نجا مشعل، إذن، من هذا المصير، وإن كان الثمن حياته بالذات. باستشهاده تحول مشعل إلى رمز للثورة السورية، فرفعت صوره في مظاهرات معظم المدن السورية، وشهد تشييعه سيلاً بشرياً جارفاً على رغم ضآلة حجم الحركة السياسية التي أسسها وقادها. ربما كان تياره هو الأصغر حجماً بين القوى السياسية الكردية، في حين بات مشعل، بعد استشهاده، بحجم سوريا.
تكرر ذلك، للمرة الثانية، في لحظة استشهاد عبد الباسط، فاستطاع أن يجمع السوريين من مختلف ألوان الطيف الوطني لسوريا ما بعد الأسد. يمكن إيراد الكثير من نقاط الاختلاف بين الشهيدين الرمزين، لكن الفارق الأهم يكمن في السياق التاريخي لاستشهاد كل منهما. فقد استشهد مشعل في زمن صعود الثورة، في حين استشهد عبد الباسط في زمن انحسارها. ولهذا الفارق معنى: ففي لحظة مشعل لم يكن السوريون بحاجة ماسة إلى رمز يمثل ثورتهم، لكن الاغتيال الخسيس الذي تعرض له، إضافة إلى الخيارات السياسية للرجل، خلقت من حوله إجماعاً وطنياً كبيراً. أما اليوم، بعد الحصيلة المهولة لاغتيال سوريا المديد، وفي زمن «المصالحات»، والاستسلام، وحالات العودة إلى حضن النظام، وتواطؤ المجتمع الدولي ضد تطلعاتهم في الحرية والعدالة والكرامة، وضياع البوصلة السياسية لدى أطر المعارضة، فقد بات السوريون بحاجة ماسة إلى رمز يلخص سيرة ثورتهم وتطلعاتها ومصيرها، فكان عبد الباسط خير من يمثل هذا الرمز.
اللافت في أمر استشهاد الساروت أن «سوريي» الضفة الأخرى، أعني سوريي الأسد المكشوفين والمموهين، قد اهتموا أيضاً بهذا الحدث، وإن بصورة سلبية بالطبع، أكثر من اهتمامهم بأي حدث مشابه. هناك تجنيد أو تطوع واسع النطاق لكسر أي رمزية محتملة قد تصنع حول الشهيد. لقد وصل الأمر حد حملات تبليغ مكثفة لحذف بوستات فيسبوكية تتحدث بصورة إيجابية عن الساروت، بوستات عادية لا تنطوي على أي إيحاءات تدعو للكراهية أو التحريض على العنف أو غيرها من المضامين التي تستوجب الحذف. وبدلاً من التجاهل الذي هو السلوك المعقول والمفهوم، لجأت «الموالاة» إذا صحت هذه التسمية، إلى الحرب النشطة ضد رمزية الساروت، فهوجم من أعلنوا مواقف إيجابية من الشهيد، بأكثر مما هوجم هو نفسه.
لقد تحول عبد الباسط إلى رمز، بهذا الإجماع الكبير الذي حظي به. وقد يمكن تفسير هذا الإجماع لدى السوريين الذين اشتهروا بعمق خلافاتهم، بحاجتهم إلى الرمز، في هذا الظرف من شعور طاغ بالخسارة، مقابل شعور الطرف الآخر بأنه «منتصر». فوجدت هذه الحاجة ضالتها في الشاب الذي أحببناه جميعاً بأغنياته الثورية وقيادته للمظاهرات السلمية في حمص ومسيرته المأسوية بعد الخروج منها.
الصراع على رمزية الساروت هو، في حقيقته، صراع رمزي على سوريا ومصيرها.
عذراً التعليقات مغلقة