تعد المتة من المشروبات الساخنة الشهيرة في مناطق مختلفة من سوريا، قبل بداية الثورة كان السوريون في المدن والبلدات السورية التي لا تشرب المتة بشكل واسع تصنف شاربيها بجغرافية انتشارها، فيقولون إن المتة يشربها أهل الساحل مثلاً أو أهل السويداء.. وهكذا… كيف ولماذا أصبحت هذه العادة البسيطة في المشرب ذات بعد طائفي وسياسي بشكل ملفت للنظر؟ بل تحولت في أوقات أخرى لجدل سياسي حقيقي بين موالين ومعارضين للنظام على أحقية انتماء هذا المشروب لفئة وحرمان الفئة الأخرى من هذا الحق، وتجاوز الجدل الفريقين الأعداء إلى الأصدقاء ذاتهم في خندق الثورة تماماً كما حدث معي في سنوات الثورة الأولى.
وأنا أجول في صفحات الإعلام الثوري على فيسبوك في العام 2013، لفت انتباهي صورة لكأس من المتة مذيلة بتعليق ساخر “اكتبولنا صفة السوريين الذين يشربون هذا المشروب”، وطبعاً خلال دقائق بدأت التعليقات تنهال “شبيحة.. علوية.. كلاب.. أولاد المتعة…”.
تجرأت أن أدخل عش الدبابير وأكتب تعليقاً على هذا المنشور لسببين، الأول: الجهل الظاهر للعيان للقائمين على الصفحة، والسبب الثاني هو استشعاري لخطاب طائفي بغيض لم نكن نتمنى أن نراه بين حاملي لواء الثورة وخصوصاً عندما يكون الخطاب من إعلاميين وناشطين أو محسوبين عليهم؛ دخلت هذا السجال وكتبت التعليق الآتي:
(مشروب المتة ليس أكثر من نبات أخضر اللون، منشأه في أمريكا اللاتينية ،وتعرف عليه الشعب السوري من خلال الهجرة السورية الكبرى للأمريكيتين في القرن التاسع عشر، وعادوا به إلى موطنهم الأصلي أهالي القلمون السوري “السني” بعد أن اعتادوا شربه في بلاد المهجر وأحبوه، ولذلك فإذا أردنا أن نلصق طائفة بهذا المشروب فهو أقرب للسنة من أي طائفة أخرى، وهو لا ينتمي لطائفة دون غيرها وليس حكرا على موالين النظام وشبيحته، وهناك شريحة واسعة من السوريين تشربه دون أن تفكر لحظة بأي انتماء سياسي”.
ولكن متى ولماذا تم تصنيف المتة كمشروب طائفي في الثورة (خاص بالطائفة العلوية)؟
كان هناك عاملان متزامنان في تحول هذا المشروب الشعبي اليومي في حياة شرائح كبيرة من المجتمع السوري إلى أحد عوامل التصنيف، فكما انقسم المجتمع (موالاة ومعارضة، العلم السوري وعلم الثورة)، كذلك أصبح مشروب المتة ذو صبغة طائفية علوية من وجهة نظر المعارضين، ومشروباً يتفاخر به موالون للأسد ويحتكرونه كأنه تراث خاص بهم فقط.
لعب النظام بطريقة ذكية على رسم صورة الجندي في الجيش في مخيلة السوريين، فأصبح الحاجز العسكري الذي قطع أوصال المدن والبلدان، واعتقل بسببه عشرات الآلاف من الشباب والنساء والأطفال، لا يخلو من ثلاث رموز: “جندي باللباس العسكري والعلم وطاولة مع كأس المتة”.
ومع غياب الإعلام الرسمي والاعتماد على وسائل التواصل الإجتماعي غزت صور وفيديوهات الجنود والشبيحة، يجلسون ويشربون المتة أثناء إهانة وتعذيب بعض المعتقلين، أو يجلسون يسخرون ويهددون كل معارضي النظام ويكيلون للثوار كل أنواع التهم والتهديد.
وفي موازاة هذا الضخ الإعلامي الممنهج من النظام كان في الطرف الآخر من إعلاميي ونشطاء الثورة من كان يتلقى هذه الرسائل تحت ضغط عاطفي وشعور كبير بالظلم من ممارسات النظام بحق أهلهم مع ازدياد وتيرة المعارك واستخدام النظام كافة أنواع الأسلحة، تراجع الجزء الأكبر من نشطاء وإعلاميي الثورة إلى اعتماد سياسة ردود الأفعال بعد أن كانوا ببداية الثورة متصدرين الفعل ومتحكمين به إلى حد بعيد.
انقسم المجتمع السوري في أواخر العام 2012، بشكل حاد بين الموالاة والمعارضة، وظهر الخطاب الطائفي عند كل الأطراف واختفت تقريباً أغلب الأصوات التي كانت تعتمد خطاباً متزناً وعقلانياً من المعارضة في مقارعة النظام بين سجون النظام ومعتقلات أو سجون المعارضى المسلحة وتهديدها وتهميش كل الفئات التي عارضت انحراف مسار وخطاب وأهداف الثورة عن طريقها، وواصل السوريون الانحدار في كل المنابر وعلى أعلى المستويات حتى بات يصنف أي سوري عند الطرفين من (لهجته، منطقته، لباسه، وأخيراً إذا كان يقرقع متة أم لا).
عندما تطحن كل المفاهيم الإجتماعية والعادات والتقاليد والدين لمجتمع ما تحت نار الحرب وتشوه وتتحول لأداة سياسية أو لعبة طائفية يستغلها أحد الاطراف أو يساهم الجميع في تعزيزها، يفقد المجتمع البوصلة بحيث يفقد الإنسان القدرة على التفكير الصحيح، ويغرق في التفاصيل المدمرة والأحكام المسبقة والتصنيفات الجاهزة ويذهب بعيداً عن تحليل جوهر القضية أو التفكير في تغيير الواقع الراهن، فالخلاف على تصنيف المتة مثلا أسهل من التفكير بالسبب الذي أوصلنا إلى مناقشة هذا الخلاف برمته.
هو نموذج يلخص حالة العجز المخيفة التي وصل إليها المجتمع السوري كله، بجميع أطيافه ومستوياته الثقافية والعلمية والنخب والعامة، وأخطر ما سنواجهه في سوريا بعد التخلص من النظام وهذه العصابة الحاكمة، هو ترميم النسيج الإجتماعي السوري الذي تفسخ لدرجة أن نطلق أحكاماً على انتماء الأشخاص من “كأس متة “.
عذراً التعليقات مغلقة