إن العلمانية التي تدعيها الدولة السورية هي مجرد قشرة هشة جداً على أرض الواقع يقوم نظام الأسد بكل ما لديه لكبح أي محاولات فردية لليسار السوري، ليبقى رغم وجود عدة أحزاب يسارية حزباً واحداً فقط لديه كل الدعم والإمكانات رغم فقدانه اليوم لأغلب قاعدته الشعبية.
نشأ اليسار السوري ضمن عدة أحزاب لكن المهيمن على الحقبة الراهنة كان حزب البعث القائم على أفكار ترغيبية وأهداف حالمة وردية من الوحدة والحرية والاشتراكية… ودعم حقوق العمال والفلاحين ودعم المرأة السورية، وقد أقام الحزب عدة حركات تحت أسماء وشعارات كأن يسمي 8 آذار “ثورة” والتي رفعت مبادئ وأهداف كثيرة ومنها دعم الفلاح والأرض لمن يعمل بها… لكنها في الحقيقة لم تعطِ أي حق للفلاح ومنذ تلك الحقبة تراجعت الزراعة بشكل تدريجي حتى باتت خاسرة وليست بالجودة المطلوبة والهدف كان مجرد كسب قاعدة شعبية ليس إلا.. كذلك ما أسماه بالحركة التصحيحية التي أقامت مشاريع تحت مسميات باء أغلبها بالفشل، لأنها كانت تعتمد على البيروقراطية والروتين والفساد، إلى تقديم الكثير من الشعارات الطنانة التي تبهر في العرض لكنها مخيبة في التطبيق..
كان شعار الحزب وحدة حرية اشتراكية لكنه ضمنياً كان ضد وجود أي حرية للأحزاب الأخرى ولم يستطع تحقيق أي وحدة بل استطاع التفريق حتى بين أبناء الشعب الواحد.. فيكفي أن تكون من حزب البعث حتى تحصل على وظيفة أو ترقية أو ترشيح وما عدا ذلك تصبح عرضة للشبهة حتى لو كنت من حزب يساري يحمل أفكار متقاربة، وبعض الأحزاب كان الانتساب إليها كالتهمة بالرغم من كونها مرخصة كالحزب الشيوعي مثلاً.
يتم إدخال الطفل السوري منذ بدئه المدرسة قسراً ضمن حزب البعث، حيث يتدرج ضمن منظمة طلائع البعث في المرحلة الإبتدائية ومن ثم شبيبة الثورة ضمن المرحلة الإعدادية والتي من خلالها يتم تنسيبه إلى حزب البعث تحت مغريات دراسية ودورات مجانية وترفيهية للطلاب.. وتحت اسم معسكرات وأنشطة تجسد فكر الحزب وأسلوبه مع تكريس مبدأ الحزب الواحد وعدم قبول الأحزاب الأخرى.
كانت بقية الأحزاب ذات حضور خجول حتى أن البعض منها لم يسمح له بممارسة مهامه كحزب على الأرض إلا بعد تقديمه أوراقاً بيضاء للبعثيين بأنهم سيكونون نسخة مصغرة عنهم، وللأسف أطلق على الأحزاب المرخصة أحزاب الجبهة.. لتشعر أنك أمام نسخ مكررة من حزب البعث.
مجتمعياً؛ برغم أن الحزب بات هو الحزب الحاكم في البلاد حسب الدستور السابق وبرغم كونه ينادي بالحريات واحترام الحقوق ويدعي العلمانية، لكنه لم يدعم المجتمع وخاصةً المرأة السورية بل على العكس تماماً اتجه المجتمع نحو الانغلاق بشكل أكبر؛ المرأة لديها الحق في التصويت ولدينا على سبيل المثال نسبة عالية من النساء ضمن أعضاء مجلس الشعب التي يتغنى بها الحزب.. لكن السؤال الذي يطرح نفسه؛ ماذا حققن في المجلس؟ وهل هذا مقياس لتطور المجتمع أو دعم المرأة السورية؟
قانونياً ظلت المرأة محاطة بقانون الأحوال الشخصية الذي يمنعها من الاستقلال المادي والاجتماعي ويجعل تبعيتها للرجل سواء الأب أو الاخ أو الزوج.. ولا تملك حتى القرار بخصوص حريتها الشخصية؛ فلا تستطيع أن تزوج نفسها حتى لو كانت تملك أكبر الشهادات العلمية..
على الصعيد الإعلامي؛ أن تكون صحفياً هذا لا يتيح لك الحرية بأن تنتقد طرفين؛ الدولة والدين، مع لفيفهم من رجالاتهم، وإلا ستلاحق بتهمتين؛ إما أنك تضعف الشعور القومي بالأمة، أو تنال من هيبة الدولة.. وفي حال رغبت بانتقاد رجل دين؛ ستتهم بأنك تسب الذات الآلهية فيما لو أردت التفوه بانتقاد فقد.
حتى أن إذاعة الأخبار لها أسلوب محدد مرسوم بحسب سياسات الدولة ولا حرية لإعلامي في الاجتهاد، بل عليه التقيد بمجموعة من اللاءات والمحظورات لتخرج بعدها أي مادة إعلامية بدون أي فحوى أو موضوع له رسالة أو هدف..
إن تركيبة المجتمع السوري قائمة على خليط كبير من الأديان والطوائف الكثيرة، وبعيداً عن محاولات تشويه النسيج السوري هنالك تجانس وتقارب بين أفراد الشعب الواحد في المدينة أو القرية أو حتى نفس الحي.. وبهذا الخليط ومع نظرية وفرضية أن سوريا علمانية كان لا بد من إيجاد صيغة لتطبيق الزواج المدني بين أفراد الشعب الواحد..
فحتى لو كان من المتعذر ولأسباب دينية عدم إمكانية تطبيقه لكن على الأقل في حال تم الزواج في الخارج أن يتم تصديقه في سوريا وتسجيله. فإلى الآن لا يمكن الاعتراف بعقد زواج مدني في سوريا وتظهر المشكلة في حال وجود الأولاد حيث لا يمكن حصولهم على أوراق رسمية تخصهم..
هذا غيض من فيض يوصلنا إلى نتيجة مفادها؛ العلمانية التي تدعيها الدولة السورية هي مجرد قشرة هشة جداً، أو هي مجرد دعاية إعلانية تنتهي بمجرد انتهاء الخطاب العلماني وما إن نعود إلى حياتنا الطبيعية تختفي بوادر هذه العلمانية من الواقع.
نحن كبلد سوري وبعد كل ما مر بنا من حروب ومجازر وقتل ودمار بحاجة إلى إعادة إعمار الإنسان قبل الحجر، بحاجة إلى إعادة تلك المودة التي ضاعت بين ركام القنابل والتفجيرات، أصبحنا اليوم نسيجاً ممزقاً يكسوه الخوف والرعب وعدم الثقة بالطرف الآخر.. الجميع يتوقع من الآخر الخيانة والغدر أو الخوف وعدم الثقة، لكن لو توقفنا للحظة بفكرة قد تكون أبعد إلى التطبيق لكنها سهلة لو أردنا التنفيذ..
لو أن الحدود الطائفية توقفت أو ألغيت بين الشعب، بحيث لو كان سنياً متزوجاً من امرأة علوية، لكن والدها شيعيّ وخالتها متزوجة من درزي بينما عمتها متزوجة من اسماعيلي وأمها مسيحية.. هكذا خليط لو حاولت معه كل فتن الأرض ما استطاعت إدخال البلبلة والطائفية إليه، لأن هكذا تماسك لن يستطيع فيروس التفرقة أن يخترقه.. وبرغم بساطة المثال فإنه ببساطة هكذا تتم وتترجم علمانية الدولة، وأعتقد ان النظام السوري يعي كيف يلغي الطائفية من البلاد لكنه يلجأ إليها لأنها السبيل لكي يحكم القبضة على الشعب عبر رجال الدين الموزعين كل على طائفته وجماعته.. فأين سوريا من العلمانية أمس واليوم وغداً؟ وهل سنحلم يوماً بدولة سوريا العلمانية للجميع؟.
عذراً التعليقات مغلقة