تعمدت أن أفصل في أكثر من مقال ضمن سلسلة حكاية سوريا عن النظام السوري وعن المعارضة، وأوضحت أنهما ينتميان لعقلية الاقطاع السياسي، والتي ترى في الناس مريدين وأتباع لديهم، لأصل في النهاية للتأكيد أننا حين تحدثنا عن إسقاط النظام، فهذا يعني إسقاط منظومة وعقلية حكم واستبدالها بمنظومة وعقلية أخرى، وليس مجرد رحيل فرد أو عائلة وحلول فرد أو مجموعة أخرى مكانه.
كما قلت إننا نبحث عن الانتقال لدولة مدنية ديمقراطية تعتمد على العمل المؤسساتي، وعلى عقلية العمل الجماعي، حيث ينتخب الناس ممثليهم إلى البرلمان السوري الذي يسن التشريعات والقوانين وفق مصلحة الناخبين، أي وفق البرنامج الانتخابي الذي تم طرحه من قبل الفريق الحاكم، والذي نال ثقة الشعب ونجح في الانتخابات بناء على هذا البرنامج، مع إقراره سلفاً بأن وجوده في السلطة وجود مؤقت، ينتهي بتغير مزاج الناخبين، وانتخابهم لشخص أو فريق آخر.
وهذا لا يناسب بعض من ركب على الثورة ورغب في استثمارها لمصالحه، فأطلق شعار “إسقاط النظام” فقط، ولتحل الفوضى بعدها لا يهم، فهو يسعى لهذه الفوضى وهذا القتل وهذا الدمار، وهي التي تمكن لمشروعه، وهذا ما قاله لي صراحة أحدهم، نريد الفوضى لعشرة أعوام كي يأتي بعدها الاسلام الصحيح ليحكم.
نحن نتحدث عن “التغيير” أي إسقاط النظام القاتل المستبد، والانتقال للدولة المدنية الديمقراطية، فهدفنا ليس انتقامياً، بل بناء الجمهورية الجديدة، بعيداً عن الاستبداد والقتل، لا نريد إسقاط النظام لنستبدل استبداداً يتاجر بالوطن وقضاياه “العدو الصهيوني” باستبداد باسم اله أو قومية أو مذهب.
وبرأيي أنه للوصول للهدف “التغيير” يجب علينا أن نشرك كل الشعب السوري المستفيد من هذا الهدف، فنحن الآن أمام فريق النظام والاستبداد، وهذا الفريق موجود لدى القاتل بشار الأسد ولدى بعض المعارضات، وهذا الـ “بعض” تراه في أوائل صفوف الأنشطة الثورية، مستثمراً الثورة للانتقال من استبداد النظام لاستبداده هو.
كما أن هناك من لا يتمتع بالوعي الكافي ليفهم أن ثورتنا هي انتقال من عقلية لعقلية أخرى، فأحدهم “زعل مني” لأنني لم أنتخبه حين كنا في أحد المؤسسات الثورية، وسألني مستنكراً “من أنت كي لا تنتخبني؟!”. لمجرد أنني لم أنتخبه، وقمت بتحالفات انتخابية أسقطته في الانتخابات، واستبعدته من المشهد غضب وهاج، ولو تخيلناه وقد امتلك القوة والسلطة، كيف سيكون تعامله؟ هل سيكون أفضل من نظام عائلة الأسد؟!!.
أسوق هذا المثال لأقول أن شعار إسقاط النظام لا يعني مطلقاً إسقاط بشار الأسد وتقديم بديل عنه، بل يعني إسقاط نظام كامل متكامل، بما فيها العقلية التي أنتجت هذا النظام، وبما فيها ذهنية الصراع التي ساهمت باستمرار هذا النظام، وانحراف الثورة عن أهدافها، وإلا فإننا نعيد إنتاج النظام معتقدين أننا أسقطناه .. ونحن لم نخرج لاستبدال استبداد باستبداد آخر، لهذا فنحن أمام شعب سوري منقسم بين فئة النظام، وبين فئة الثورة المؤمنة بالتغيير، ويجب علينا البحث في توسيع الفئة المؤمنة بالتغيير، بحيث نضيق فئة النظام وأمثاله لأقصى درجة ممكنة، وهذا يتطلب إشراك كافة قوى ومكونات الشعب السوري المؤمنة بضرورة التغيير إلى نظام ديمقراطي.
وهذا يتم عبر تلمس مشاكل وهموم ومخاوف مكونات الشعب السوري، فمثلاً لدى إخوتنا الأكراد هموم ومخاوف بسبب القمع الذي عانوه من قبل الاستبداد الأسدي، ومن قبل الفكر القومي الشوفيني، المقصي لغيره من الثقافات، لهذا يجب أن نوجد حلولاً إبداعية تساهم في تطمينهم.
لقد تحدثت في أول مقالة من مقالات سلسلة حكاية سورية، “لماذا يمنع نجاح الثورة السورية؟” أن التنوع والتعددية عند السوريين شكل أرضية خصبة لتطور حضاري، كان سبباً إضافياً من أسباب إغاظة الجوار، ورغبته في غزو وتدمير البلد أو الحاقنا بإمبراطورتيه، بنفس الوقت كانت محاولات إلغاء هذا التنوع مصدر الخطر للدولة، فمحاولات الإلغاء، ومحاولات فرض “التجانس”، تدفع بالضعيف للاستقواء بالخارج الذي يتربص بنا دائماً، لهذا حين كنا متسامحين متقبلين للتعايش والتعددية كنا من أسياد العالم، وحين حاول البعض بسوء فهم أو تقدير إلغاء هذه التعددية، وفرض اللون الواحد، وعدم تفهم بقية الشركاء في الوطن، كنا دائماً نقع باحتراب وقلاقل داخلية، مما جعلنا لقمة سائغة على موائد اللئام.
لهذا يجب البحث عن حلول إبداعية، وكي لا أبقى في مجال التنظير، يمكن أن أطرح بعض المقترحات، علها تكون حافزاً لنفكر بشكل جماعي، ونطور عليها، فالبناء على المواطنة السورية المتساوية في الحقوق والواجبات، يمكن أن يرسخ في المستقبل هوية وطنية سورية.
أيضاً فالتنوع الثقافي والتأكيد على حقهم في التحدث والتدريس ونشر الثقافة بلغتهم، وتنشيط وتطوير الثقافة الكردية باعتبارها منتوج ثقافي لشعب أصيل يؤمن بقيم العدالة والمساواة … أمر هام، ويعطي قوة للهوية الوطنية السورية ولا يضعفها.
أيضاً فإن اعتماد لا مركزية إدارية، وتوسيع صلاحيات الإدارة المحلية، وإيجاد غرفتي برلمان، الأولى تنتخب أعضاءها على أساس الدوائر الكبرى، أي أنها قوائم على مستوى الوطن السوري، تسعى لتكريس الهوية الوطنية السورية، وغرفة أخرى تنتخب على أساس الدوائر الصغرى، وهي تطمن مخاوف مكونات الشعب السوري من هيمنة لون من ألوان الطيف السوري على الوطن.
وهذا يعني أننا ننطلق من عدم التمييز بين كافة عقائد وقوميات وانتماءات الشعب السوري المختلفة والمتعددة والجميلة والتي تعكس تاريخ الشعب السوري وحضارته وتنوعه بغض النظر عن حجم اتباع هذه الفئة أو تلك. فالدولة التي ننشدها تضمن للجميع حرية اعتقادهم وانتماءهم وممارسة طقوسهم وتعمل على نشر ثقافتهم وتطويرها للتحول من ثقافة فئوية إلى ثقافة وطنية .. فالأنظمة السابقة لم تنشر ثقافات السوريين وتجاهلتها فلم يتعرف السوريون على بعضهم البعض.
- حكاية سوريا: سلسلة مقالات تستعرض ملامح ورؤى من التاريخ البعيد والقريب لسوريا، يمكن من خلالها فهم أسباب ما يجري من حروب ودمار على أرضنا، حسب وجهة نظر كاتبها.
عذراً التعليقات مغلقة