مذكرات سجان في صيدنايا – الجزء الرابع
تتابعت الأيام ولم يتغير أي شيء على خدمتنا في سرية الحراسة، فقد أصبحت مجرد روتين يومي. كانت الأيام تتوالى ولم يحدث أي شيء مهم باستثناء صدور قرار يقضي بترفيع الجامعيين إلى رتبة مساعد، وهو قرار لم يغير كثيراً من وضعنا.. إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قلب حياتنا وخدمتنا رأساً على عقب.
في ظهيرة يوم الخميس الواقع في 2008/3/27، كنت نائماً في المهجع على غير عادتي في مثل هذا الوقت، وفجأة دخل علي زميل لي وراح يوقظني بحالة جنونية، لم أكن أسمع منه إلا عبارة “قوم يا رجل قامت القيامة”، كررها عدة مرات بحالة هستيرية، وخرج مسرعاً، لم يخطر ببالي أي شي، خرجت مسرعاً من المهجع أتبع خطاه، ونظرت باتجاه السجن حيث ينظر، كان أمراً لا يمكن تخيله، الدخان يتصاعد من مبنى السجن، وعدد من المدرعات التابعة للفرقة الثالثة تتمركز داخل السور الأول، ولأول مرة كنت أراها بحالة استنفار، كانت المدرعات تتحرك عند السور الداخلي، عند باب الاستعلامات، الجميع يركض باتجاه السجن، لأول وهلة اعتقدت أن حريقاً كبيراً قد شب في السجن، وأتساءل بيني وبين نفسي بحيرة عن سبب وجود المدرعات، كنت أعيش حالة ذهول، سرعان ما أخرجني منها صراخ أحدهم بي: “روح استلم بارودة واطلع لفوق”. سألته باستغراب ودهشة: “شو صاير؟”. أجاب: استعصاء!
حالة الذهول تبدلت إلى قلق وخوف، وأدركت عندها حجم الكارثة، فركضت مسرعاً بإتجاه مستودع الأسلحة، واستلمت بندقية وذهبت إلى مبنى السجن.
كان جميع العناصر حول المبنى، في البداية ظننت أن معركة تحصل في الداخل، ولكن بعدها اتضح أن جميع عناصر “الداخلية” في الخارج ولا يوجد أحد منهم في الداخل.
وخلال وقت قصير بدأت القوات الأمنية تحضر إلى السجن من جميع الفروع، أمن عسكري وأمن الدولة والأمن المركزي والمهام الخاصة وحفظ النظام و مكافحة الإرهاب، خلال نصف ساعة كانت قد تمركزت في السجن عناصر من معظم أنواع القوات المسلحة، تنتشر حول المبنى، والجميع يتساءل عن ماهية ما يحصل.
كنت أسمع من بعض العناصر أن السجناء حاولوا أسر بعض العناصر، ومنهم من يقول حاولوا أسر مدير السجن، وحتى هذه اللحظة لم نكن نرى شيئاً يظهر من السجن إلا الدخان، وكنا نسمع أصواتاً غير مفهومة تخرج من داخله.. وفجأة بدأ الجميع ينظر إلى سطح السجن، وعندما رفعت بصري للأعلى.. كانت المفاجأة، يا له من منظر مرعب.. أشخاص لهم لحى طويلة، بشرتهم بيضاء، ملابسهم غريبة، يعتلون سطح السجن، نعم إنهم السجناء.
تراجع جميع العناصر إلى الوراء ليتمكنوا من رؤية هذا المنظر بوضوح أكبر.. كان مشهداً غير مالوف وغير متوقع ويحدث لأول مرة.. ولم يصدر أي رد فعل بعد.
بالنسبة للسجناء.. كانوا يتوافدون إلى السطح وبدأوا يستكشفون المكان الذي هم فيه، ولأول مرة يتعرفون على محيط محبسهم، ويشاهدون هذه البقعة من الأرض.. بعدها بدأوا يطلقون عبارات ضد الدولة والرئيس، ويصفون العناصر ومدير السجن بالجبناء.
مع مرور الوقت غص سطح السجن بالسجناء، وما لبثوا أن بدأوا يطالبون بمقابلة بشار الأسد، أو وزير الدفاع، ليشرحوا له أوضاعهم، وما هي إلا دقائق حتى حضر مسؤولون أمنيون لم يتعرف عليهم أحد من زملائنا، وبدأوا يفاوضون السجناء، وجرى الإتفاق على أن ينزل عدد من السجناء للتفاوض، وفعلاً نزل بعضهم، وقابلوا المسؤولين وعادوا إلى السجن، وخلال وقت قصير بدأ السجناء بالنزول تباعاً من عن السطح، والعودة إلى الداخل، ورغم محاولاتنا لمعرفة ما جرى في المفاوضات، إلا أننا عجرنا عن معرفة أي تفاصيل تتعلق بالإتفاق الذي أنهى حالة الاستعصاء في ذلك اليوم المذهل .. ولكن.. تلك الانتفاضة الأولى التي حصلت في يوم ربيعي بارد.. حصلت بسرعة خاطفة.. وانتهت بسرعة أكبر، واتفاق لم يتبدد غموضه حتى الآن.
… يتبع
لقراءة الجزء الأول: صيدنايا.. قلعة الأسرار – أول مشاهد الرعب / مذكرات سجان في صيدنايا – الجزء الأول
لقراءة الجزء الثاني: صيدنايا.. قلعة الأسرار – تحطم الآمال / مذكرات سجان في صيدنايا – الجزء الثاني
عذراً التعليقات مغلقة