تناولت في المقالة السابقة “كيف تم تجميد تطور المجتمع السوري” الظروف التي وصل بها حافظ الأسد للسلطة، وكيف وضع العسكر المجتمع السوري في الثلاجة، ومنع تطوره، عبر تجميد الحراك السياسي، ومصادرة المساحة العامة في المجتمع.
يمكن أن نعمم بشكل أو بآخر هذه الظروف على باقي أقطار (الثورة والثروة) في الوطن العربي، فأقطار الثروة تجمد الحراك بها، وكانت الأموال الضخمة الآتية من عوائد النفط، كفيلة بنسيان الناس الحديث في السياسة، خصوصاً أن تركيبتها الاجتماعية عشائرية قبلية، ولم تكن تركيبة مدن وحضارة، أضف لذلك استغلال البعض للدين واعطاؤهم مشروعية وقداسة دينية للحاكم (خادم الحرمين الشريفين) منعت الناس من التفكير بالحريات والعدالة والديمقراطية، أما في أقطار الـ(ثورة)، فقد تشابه الوضع في ليبيا والعراق واليمن مع الوضع السوري، وباستثناء مصر وتونس اللتان سمح النظام بهما بهامش بسيط جداً من النشاط السياسي، أدى إلى تجنيب البلد مصير العراق وسورية واليمن وليبيا.
منذ سبعينات القرن الماضي استقر الوضع في المنطقة كالتالي: أنظمة مستبدة صادرت المجال العام، ومنعت الصحافة الحرة، والنشاط السياسي، ووضعت المعارضين في السجون، أو قتلتهم، قامت هذه الانظمة بنهب شعوبها، ومقدراتهم.
بالمقابل كانت هناك دول كبرى تدعي حقوق الانسان والديمقراطية، تغض النظر عن هذه الأنظمة، مقابل سرقة مواردها الطبيعية، وفتح أسواق تلك الدول – خصوصاً أسواق الخليج – أمام بضائعها.
كان من الطبيعي أن تنشأ نتيجة هذه المعادلة أنظمة ذات طبيعة مستبدة، لا تهتم بتطوير بلدانها، ولا مصلحة شعوبها، أنظمة اعتمدت على الأجهزة الأمنية التي شكلتها كي تقمع أي احتجاج شعبي يرفض ممارسات هذه السلطة، مما نتج عنه خلل كبير في توزيع الدخل الوطني، وأصبح القرب من السلطة هو سبب الثراء، وليس العمل المنتج، ونتيجة هذا الفعل اهتز المجتمع، وانهارت الطبقة الوسطى الحامية للقيم، والضامنة للاستقرار الاجتماعي، وانهارت الأخلاق العامة، وأصبح الفساد أمراً محموداً، وأصبح الشريف انساناً أحمق منبوذاَ من المجتمع.
اختلال المفاهيم والقيم الأخلاقية، أوجد البرجوازية الطفيلية، وأدى لتراجع في الصناعة والزراعة، وهذا كوّن ثروات أسطورية لدى العائلات الحاكمة (الأسد ومخلوف في سورية ومبارك في مصر والقذافي في ليبيا والطرابلسي في تونس و..) ولدى المقربين منها، كما أضر بالاقتصاد الوطني عبر محاربة الصناعة والتجارة، والصناعيين والتجار، بقوانين وضرائب جائرة تحد من نشاطهم، وتدخل ضباط الأمن بأنشطتهم وأعمالهم، وعناصر السلطة، وفرضوا الأتاوات عليهم، حتى وصلت لمشاركتهم في أموالهم عنوة.
يمكن ببحث بسيط يقوم به المهتم أن يكتشف أن عهد حافظ الأسد خلا من بناء منشأة صناعية واحدة ذات فعالية وجدوى اقتصادية حقيقية، وكل المشاريع المنفذة في بدايات حكمه كانت عقودها ودراساتها موجودة وموقعة قبل وصوله للحكم، وكان بناؤها تحصيل حاصل، أي لم يكن لهذه العائلة أي دور بتطوير البلد، بالعكس فقد دمرت الاقتصاد السوري وأوجدت طبقة طفيلية اعتمدت في نشاطها التجاري على القرب من السلطة، فوزعت عليهم المنافع وشهادات الاستيراد الحصرية، لا بل وصل الفساد بهذا النظام بأن ادعى أن الدولة تتعرض لحصار اقتصادي، فقام المقربون منه بالاستيراد من خلال ميناء بيروت، بالشراكة مع زعماء الطوائف والاقطاع السياسي في لبنان، كي يشتروا ذممهم، ويبقى هذا النظام مهيمناً على الدولة اللبنانية، ثم يقوم الآلاف من الضباط والعناصر بإدخال تلك البضائع تهريباً إلى سورية حين كان الجيش السوري محتلاً للبنان.
هذه الشراكة بين الاقطاعي السوري (حافظ الأسد)، وبين الاقطاع السياسي اللبناني (زعماء الطوائف)، والتي امتدت لتصل إلى الشراكة في زراعة وتصنيع والاتجار بالمخدرات، وقصص سهل البقاع اللبناني وعلاقة حزب الله والنظام السوري بكارتيلات تهريب المخدرات معروفة، ويوضح موقع حزب القوات اللبنانية أن سبب اطلاق ماهر الأسد الرصاص على آصف شوكت زوج شقيقته كان خلاف على تهريب المخدرات، وأن اطلاق الرصاص تم في بلدة مضايا على الحدود اللبنانية السورية.
تجارة التهريب هذه أضرت بالاقتصاد الوطني السوري الذي حرم من إقامة مصانع تطور انتاج الدولة ودورها، وحرم من عائدات ضرائب الاستيراد، وشجع على الفساد عبر غض النظر عن آلاف الضباط، وصف الضباط، والجنود، الذين تورطوا في عمليات تهريب قد تكون بسيطة (عدة عبوات من مناديل ورقية “كلينكس” أو عدة عبوات سمنة أو بعض الموز … الخ) لكنها في الواقع مشاركة في الفساد، وهكذا أشرك المجتمع وشجعه على الفساد.
هذا الشكل من تراكم الثروة أدى لإفقار غالبية الشعوب العربية، وبقيت قلة قليلة تتمتع بهذه الثروات الهائلة، وبقية الشعب يعيش تحط خط الفقر، لا بل في فقر مدقع، وهو ما أدى في النهاية لانفجار انتفاضات شعبية بدأت بتونس وانتقلت لمصر وعدد من الدول العربية، ومنها طبعاً سوريا.
عذراً التعليقات مغلقة