بعد يوم عمل غير نافع يمضيه أي موظف في دائرته، يمضي ليتحايل على الفتات الورقي من النقود الموجود في جيبه لأجل سد رمق ما تيسر له من حاجات منزله، يدخل هذا الفرد – المغلوب على أمره في الحياة والمجتمع – منزله، يأكل ما أمكن لزوجته تحضيره مما توفر، ومن ثم قد يعد كأس الشاي المخصص له ويفتح صفحته على الفيس بوك؛ يقرأ آخر القرارات الوزارية والحكومية التي تتربص به وبأمثاله، يعاين بسخرية أسعار الخضار والفواكه في صفحة إدارة الخزن والتسويق وعن توافرها بأسعار رخيصة (على الصفحة فقط)، وتظهر له عنوةً صفحة أسعار الدولار والعملات الأخرى.. قد يضحك على نكات البعض حول السياسة النقدية لمصرف سورية المركزي الذي كان آخر تصريح له “إنه قادر على إنزال سعر الدولار إلى 200 ليرة لكنهم لن يفعلوا لأنهم سيزيدون من ثروة أمراء الحروب في سورية!”، وزير المالية يصرّح من مكتبه المستورد بأن الزيادة التي ستحدث ستجعل المواطن يشعر بالزيادة، وبعض التصريحات الهزلية لرئيس الوزارة خميس ويليه وزير التعليم العالي، يضحك مواطننا ويعلق هنا وهناك من باب فشة الخلق والدعابة، تنقطع الكهرباء كعادتها فيتوقف النت لديه، ومن ثم يغلق حاسوبه القديم ويذهب لرؤية أصدقائه في القهوة المعتادة.. يتبادلون الأخبار والنكات ويضحكون على المستجدات ويلقون السباب والشتائم بحق الحكومة التي جعلت منهم لاهثين وراء الخبز والدواء.
يوم ببدو بسيطاً وعادياً؛ لكن هذا الرجل العادي لا يدرك الكم الكبير من التهم التي ارتكبها بحق نفسه والتي ستودي به إلى غياهب السجن.. فهو بفعلته هذه وبمجرد التعليق والشتم وما اعتبره (فشة خلق ودعابة) قام بإلصاق أسوأ التهم بحقه والتي تخالف المادتين (285/286) من قانون العقوبات السوري. حيث إن المادة 285 تنص على أن “من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوة ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال الموقت. فيما تنص المادة 286 على أنه “يستحق العقوبة نفسها من نقل في سورية في الأحوال عينها أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة. وإذا كان الفاعل يحسب هذه الأنباء صحيحة فعقوبته الحبس ثلاثة أشهر على الأقل”!.
بفضل هاتين المادتين أصبح أي مواطن متهماً بتهم معلبة ودائمة الصلاحية يمكن فتحها في أي وقت ومكان وإلصاقها به كاسمه تماماً.
هذه التهم التي تم بموجبها ملاحقة كثير من الصحفيين وأصحاب المنتديات الإلكترونية وكل من يقوم بالتوقيع ولو على بيان لجرائم الشرف أو العنف ضد المرأة والطفل، ليمثلوا أمام محاكم الجنايات بتهم تنافي الدستور وحرية التعبير ومبادئ حقوق الإنسان الدولية. والتي نذكر بعضاً منها على سبيل المثال:
– لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته باعتناق الآراء دون مضايقة وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود (المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
– لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعســفاً (المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
– كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. (المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية).
– لكل فرد حق في الحرية والأمان على شـخصه ولا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسـفاً ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقاً للإجراء المقرر فيه (المادة 9/1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية).
– تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز على أساس الوقائع وفقاً للقانون ودون أية تقيدات أو تأثيرات غير سليمة أو أية إغراءات أو ضغوط أو تهديدات أو تدخلات مباشرة كانت أو غير مباشرة من أي جهة أو من لأي سبب. (الفقرة الثانية من مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والمتضمنة).
ليمثل هؤلاء في صف واحد مع مجرمين أو قتلة وينالوا ذات العقوبات في السجن أو الاعتقال الذي يتراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة عشر عاماً. عدا عن أن المثول أمام القضاء يأتي بعد فترة اعتقال غير معلن المدة ضمن جهة أمنية معينة، وحتى بعد انتهاء مدة السجن؛ سيبقى صاحب التهمة يعاني من الاستدعاءات المتكررة والرقابة على كل تصرفاته هذا إذا لم يتم تجريده مدنياً من حقوقه ومنعه من السفر وفرض الإقامة الجبرية بحقه..
في ظل هذا الوأد لكل حرية في التعبير وكم الأفواه والخوف من السجن أو الإعتقال كيف لنا أن ننتظر وجود أي جديد أو إبداع من الجيل القادم؟ الجيل الذي عليه التفكير مطولاً قبل الإقدام على أي خطوة ومن ثم الوقوف مكانه خوفاً من العواقب. وكيف لنا إذاً أن نستغرب تفكير وأسلوب ما يتم تشبيهه بالقطيع عندما يكون الخوف هو السمة الأساسية أمام كل خطوة؟ نعم سيحجم القطيع ولن يخطو إلا حين يسمح له الجلاد أو السجان بالحركة بمقدار ما يحدد له من خطوات محسوبة.
هذا البطش لم يكن حكراً على مواطنين عاديين فقط، بل كان يستهدف الإعلاميين والصحفيين والمفكرين، فالرقابة دائماً موجهة صوب أصحاب الفكر والقلم لأنهم الأكثر خطراً على النظام الدكتاتوري.. هيثم المالح الذي سجن قرابة عشر سنوات للتعبير عن الرأي وكذلك رياض الترك، يحيى الأوس الصحفي الذي سجن لأجل مقال قد لا يرقى لمرتبة انتقاد فقد كان مجرد تعبير عن رأيه بالصحافة السورية وبأسلوب التعاطي مع الأخبار، فائق المير الذي اعتقل واختفى،
القائمة تطول وتحتاج إلى توثيق دائم حيث يعتقل يومياً العشرات ولايتم توثيق كل الحالات..
هؤلاء نبذة صغيرة عن أسماء لا تعد ولا تحصى لجريمة تعتبر فضيحة عالمية في حقوق الإنسان، جريمة في التعبير عن حرية الرأي.
بيان دمشق الذي كان في العلن وضم شخصيات فكرية ودينية وعلمية ومن كل الأطياف انتهى وأغلب من وقع عليه صار في غياهب السجن.
هذه المواد رسالة لكل فرد سوري تسوّل له نفسه الإدلال على مواضع الخطأ والحديث عن رأيه معتقداً أنه يملك الشفافية لذلك، السوريون ببساطة باتوا بين نقيضين؛ الولاء والتسليم لكل ما يجري أمامهم بانتظار نهاية الحرب وخيبة الأمل كبيرة أمام الفساد الإداري وانهيار الاقتصاد الذي جعل الناس تعاني الفقر والجوع والحرمان من أبسط مقومات الحياة، أو السجن لهم فيما لو فكروا ولو بالتعبير عن إحساسهم بالقهر والغبن، والتخوين فيما لو اتخذوا قرارهم بالسفر والبحث عن بلد بديل لطموحاتهم وحياة آمنة وكريمة.
Sorry Comments are closed