ممدوح السكاف.. آخـرُ الـبَـرْنَـاسِـيّين
بقلم: عبد الكريم بدرخان
من أعمدة حمص العالية، كالساعتين القديمة والجديدة، وكنَقْشِ العقرب عند باب الجامع الكبير أو كخميس الحلاوة. كان ممدوح السكاف خالداً في عشقه لمدينته، للمرأة، وللقصيدة. شاعراً كانَ إنْ نطَقَ أو لم ينطُقْ، وعاشقاً إنْ باحَ أو لم يبُحْ. لم يقتنعْ يوماً بالمقاهي وأدبائها، مُنعزلاً في بيته ومُستغرقاً في شُغله الإبداعيّ والنقديّ كان، ومُوَاظباً على خدمة الثقافة والنشاطِ الثقافيّ بكلِّ ما أُوتـيَ من صبرٍ ودأبٍ وطُولِ أناة. وما لمحتُه مرّةً مُتوجّهاً إلى مكتبهِ في شارع الغوطة ذاتَ صباح، أو عائداً من الدَّبلانِ فشارعِ القُوَّتلي ذات مساء، بجسده السبعينيّ وقلبه الفتـيّ؛ إلّا وحسِبتُهُ أحدَ شُعراءِ فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بودلير أو فيرلين أو مالارميه.
في حضرة الماء
كنتُ قد سمعتُ الكثيرَ عن ديوانه “في حضرة الماء”، إلى أنْ صادفتُه على إحدى “بَسْطَاتِ” الكتب المستعملةِ في منطقة “الـحَلْـبُوني” بدمشق، فأخذتُهُ ورجعتُ إلى حمص. وفي مساءِ اليوم ذاته، صادفتُ الأستاذ ممدوح عند منزول آل الهاشمي، فأخرجتُ الديوان من حقيبتي (حقيبة المثقّفين) وقلتُ له:
– مَن هي الآنسة وفاء؟
– من وفاء؟ من تقصد؟
– التي أهديتَها هذه النسخة من ديوانك، انظُـرْ هنا! أليس هذا خطُّك؟ أليس هذا توقيعك؟
– (ضحك) نعم.. نعم.. لكني نسيتُ! والله نسيت.
– إذاً، سأسألُ خالتي أمّ رضا عن ذلك…
أعتبرُ هذا الديوان الصادر في العام 1983 أجملَ دواوينه من حيث الموضوع والأسلوب، ففيه يقاربُ المرأة، ويقتربُ منها، يذوبُ في عشقها، ويتشظَّى في مرايا جسدها، ثم يتبخّرُ على نارِ لُـهاثها الهادئة.
يُصوّرُ الأستاذ ممدوح جسَدَ المرأة بتضاريسه العظيمة، يهيمُ في وديانه، ويتعبّدُ في محرابِ نُعْمَيَاته، ويُبدعُ في الكتابةِ عنه بشكلٍ لا يُجاريه فيه شاعرٌ سوريّ… إلّا نزار قبّاني.
تعود قصّة الديوان إلى العام 1980، حين سافر الشاعرُ مع مجموعةٍ من الأدباء ضمن وفدٍ ثقافيّ إلى الاتحاد السوفياتي، وهناك التقى بفتاةٍ اسمُها “لورا”، وقد أعطته هذه الفتاةُ خلال أربعٍ وعشرين ساعةً ما كان ينتظرُهُ ويحلُم به طوال عمره، فتفجّرتْ ينابيعُ شاعريّـته مشكلّةً بحراً من الماء العذب، تسبحُ فيه حوريةٌ واحدةٌ هي “لورا”. و”لورا” هي المرأة الوحيدة التي يلامسُها شاعرُنا بقوانين الواقع لا الخيال، والوحيدة التي يذكُرها بالاسم في شعره، مَعَ وصفٍ تفصيليٍّ للجسد. كيف جاءت “لورا”؟
“جاءتْ لورا من بستانِ الكرزِ
اندفعتْ مثل غزالٍ أعمى
تتلألأُ بالعُريِ
وشقَّتْ في أعماقِ الليلِ
طريقاً نحوَ مرافئِ جسدي…”
ثم يسهبُ في وصف تعلُّقه وتدلُّهه بها:
“لو فارقتُكِ توَّ الثانية
أعودُ لأسكنَ بين مراعي صدركِ
أنزلقُ إلى قمَرِ السُّـرّةِ
أتنشَّقُ لحمَ الوركينِ المتورّدِ بالمسكِ الجلديّ…”
الديوانُ كلُّه في حضرة لورا، تعبـُّــدٌ في مذبح هذه الكائنة الأسطورية التي وصفها بـ “حفيدة هيلين”:
“أتجلَّى في هذا الجسدِ المتجلّي
أرمُقُ نفسيْ من داخلها
أشهقُ عند مسيلِ الخصرِ
وتوتِ النهدينِ
وأُشْدَهُ عند رفيفِ المرمرِ
في وردِ الفخذينِ
وأنهدُّ على الشاطئِ مُنسكِباً…”
الصومعة والعنقاء
وهو ديوان قصائد نثرٍ نشرَهُ في العام 2003، وكانت مغامرةُ الشاعر الخبير في الشكل الجديد، استجابةً لموقف جديدٍ من الشِعر والعالم، ولرؤيةٍ جديدة تشملُ وظيفةَ القصيدة ومقولتها. أي كان انتقالُهُ من الوزن إلى النثر لأغراضٍ فنيةٍ لا لخلَلٍ فـنّـي.
المقصود بـ “الصومعة”؛ صومعة الوحدة والوحشة التي يعيشُها الشاعر الستينـيّ، وبـ “العنقاء”؛ المرأة الغائبة/ البعيدة/ مستحيلة المستحيلات. وبينهما يبكي الشاعرُ شبابَهُ ويرثي جسدَه: “ليسَ في صومعتي سوى جثّتي أُكلِّمها”، ويقدّم خلاصةً لتجاربه الحياتية والغرامية، فيها الكثيرُ من الحكمة، أقتبسُ مثلاً:
“الحلمُ يوفَّــرُ عليَّ مشقَّة تغييرِ الواقع”، أو:
“الحبُّ يتوَّجُ برعشةِ الجسد”، أو:
“مع المرأة / عليكَ أنْ تكون صَبُوراً وجَسُوراً”، أو:
“فارسُ العشّاق / مَنْ يُـروَّضُ الفرَسَ الـحَـرُون”، أو:
“المرأة الغَـيُور / لا تغفرُ للرجُلِ حتى ماضيه”.
وفي مواضعَ أخرى، تجدُ خفّة الدَّمِ الحمصيّة التي لا بُـدَّ أنْ تظهرَ على أبنائها حتى في الحال الشِعري:
“دعينيْ أحاوِلُ حبَّكِ / إذا لم أفلحْ / ستكسَبينَ هَدَاياي”، أو:
“أعودُ إلى مسقطِ رأسي / كلّما شعرتُ أنني بلا رأس”، أو:
“النساءُ مأزوماتٌ / مُفرَدُهنَّ ليسَ من نوعِ جَمعهنَّ”، أو:
“أرسليْ إليّ شفتيكِ بالبريدِ لأقبّلهما”، أو:
“الحبُّ قمحُ الحياة / القمحُ مساميرُ الـرُّكَب”.
كانت قصيدةُ النثر مِطْواعةً في يدِ شاعرها عند استخدامه لأساليب تعبيرية مختلفة، فعبَّـر بالصوتِ وباللّونِ وبالشكل الهندسي. وكذلك عند استخدامه لتقنيّاتِ بناء الصُّورة والمشهد والقصيدة ككُلّ. فاستخدمَ -مثلاً- “تقنية المونتاج” (تَتَابُع الصُّوَر الصغيرة لتُشكّلَ باجتماعها صورةً بانوراميةً كبيرة) كهذا المشهد:
“السائقُ
في مرآة السيارةِ
يرى كفّي يكلِّمُ كفّكِ بلغة الأنامل”.
وصولاً إلى البناءِ الـمُحكَم للقصيدة الدراميَّة السينمائية، مثل: “رجُلٌ وامرأةٌ تحتَ رذاذ الحبّ” التي تذكّرني بقصائد جاك بريفير الخالدة، مع أفضليّةٍ لابن “صْلِـيْبة العْصَـيَّـاتي” على ابن ضاحية “نويي سُورْ سِيْن” الباريسيّة، من حيث الموهبة وإتقان البناء.
لا مندوحةَ من القول إنّ هذين الديوانين لا يُمثّلانِ نِتاجَ الشاعرِ كلَّه، وهما لا يُغنيانِ عن غيرهما من الدواوين. لكنني أحسبُ أنّ صوتَه الحقيقي يبرزُ هنا، وكذا مذهبَهُ الجماليّ المحتفي بجماليّات الأشياء والأجزاء والتفاصيل لذاتها، لا بكونها رمزاً أو وسيلةً لشيءٍ آخر. ولهذا أنسـبُهُ إلى البَـرْنَـاسِيّـين، لأنّ جَذْوته من هناك.
ذكريات
بأناقته المعهودةِ وربطاتِ عنُقهِ الملوّنة، وبشَعره الـمَرْدودِ إلى الخلفِ؛ كان أبو الرّضا يُعلِّم الشعراءَ كيف يكونون. وبقصيدته البالغة التأنيق والتذويق؛ كان يعكسُ ذاتَه وخُلُـقَه وطيْبَ منبتِه.
في أوّل مرةٍ تجاسَرتُ فيها وتكلّمتُ معه (عندي حساسيّة تجاه الأشخاص الـمُهمّين أو المشهورين)، كان مُهتماً جداً بالتعرّف إليّ، وطلبَ مني أنْ آتيه ببعضٍ من نُصُوصي ليقرأها. فعلتُ ذلك بعد أسابيع، وبعد دفعٍ من الأصدقاء، وحينما تركتُه مع النصوص لأيامٍ ورجعتُ، قال:
– إيه.. أنت شاعر.
– يعني.. هل قرأتها؟ هل أعجبتك؟
– خلص.. بلا كترة حكي، روح.. أنت شاعر!
بعد ذلك، صار الأستاذ ممدوح يقرأ كلَّ قصيدةٍ أنشرها في الصحف، ويهاتفُني إلى المنزل فورَ انتهائه من قراءتها، ليناقشني فيها ويُبدي ملاحظاته ونصائحه. كنتُ في تلك الأيام مِـمَّن يسهرون الليلَ وينامون النهار، لكنّ الأهل كانوا يوقظونني في الحالات الهامة: “عبّودي.. ممدوح سكاف ع الخطّ..”، وكان يقول لي: “لا عليك! نصفُ ما نكتبُهُ.. يأتي من الأحلام”.
كان الطريقُ من باب اتحاد الكتّاب في حمص إلى إشارة الغوطة؛ يأخذُ دقيقتين سيراً على الأقدام. لكنه يأخذُ ساعةً عندما أقطعُهُ مع ممدوح السكاف، إذ كان يتوقّفُ بين الخطوة والأخرى ويلتفتُ نحوي، يرفعُ يدَهُ ويُشهِرُ سبَّابته: “أُستاذ… كان الـ…”، ويعقدُ لي مقارناتٍ بين سوريا الخمسينات والستينات حيث الصُّحف والأحزاب والأدباء والمفكّرون…، وسوريا الثمانينات حيثُ لم يعد هنالك علبةُ محارم أو تنكة زيت…، أو سوريا الحالية حيثُ الاستهلاك الشَّرِه والتفاهة الـمُعلَّبة…
مرّةً صادفتُه في معرضٍ للكِتَاب؛ فأخذَ مني الكتبَ التي اقتنيتُها لكي يهتديَ بها. لكنني خيّبتُ أملَه فلم يجدْ من بينها ما يمتُّ إلى الشِعر بصِلَة، إذ كانت عن الكتابة المسرحية والسينمائية، فقال لي: “إي.. اشـتغِلْ بكُلّ الفنون.. لكن ركّـزْ على الشِعر..”. ثم سألَ صديقتي عمّا في يدها، وكان فيلماً أجنبياً، فقال: “إي، على أيامكُن صرتو تشوفو أفلام أيمت ما بدكن… أما على أيامنا، فكانوا يعرضولنا عَ التلفزيون فيلم واحد بالأسبوع فقط، وبقيّة الأيام مَسِيرات…”
كان يحكي لي عن ذكرياته مع عبد الباسط الصوفي ووصفي القرنفلي ورفيق فاخوري ومراد السباعي وممدوح عدوان ومحمد عمران وعلي الجندي وغيرهم، وينقلُ عن الأخير قولَه: “نحنُ شعراء الهوامش.. لا أحدَ يكترثُ بنا..”. نعم، بالفعل، لقد ظُـلِـمَ أدباءُ الأقاليمِ السُّورية بالمقارنة مع الأدباء المقيمين في العاصمة؛ حيثُ الإذاعة والتلفزيون والصحف المركزية والوزارات…
ما صدَرَتْ جريدةٌ أو مجلّةٌ ثقافية في سوريا خلال القرن العشرين؛ إلّا واحتفظَ ممدوح السكاف بأعدادها الكاملة من الألف إلى الياء، وما مرَّ أسبوعٌ إلّا ونشرَ مقالاً أو اثنينِ في الأدب أو النقد أو الثقافة ككلّ، وما نُشِرَتْ قصيدةٌ أو قصّةٌ أو مقالةٌ إلّا وقرأها أوّلاً بأوّل، وما برزَ شاعرٌ أو قاصٌّ إلّا وأخذَهُ مِنْ يَدِهِ وقادَهُ نحوَ الأمامِ الأمامِ الأمام… أقولُ ذلك؛ لكي يعرفَ الصغارُ كيفَ يكونُ الكبير.
وما لمحتُه مرّةً مُتوجّهاً إلى مكتبهِ في شارع الغوطة ذاتَ صباح، أو عائداً من الدَّبلانِ فشارعِ القُوَّتلي ذات مساء؛ إلّا وحسِبتُهُ أحدَ شُعراءِ فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بودلير أو فيرلين أو مالارميه.
* * *
الشاعر والأديب السوري ممدوح السكاف في سُطُور:
ولد في حمص عام 1938، وتخرّج في جامعة دمشق قسم اللغة العربية عام 1964. من مؤسّسي اتحاد الكتاب العرب في سوريا 1968. عملَ مديراً للمركز الثقافي بحمص من 1969 وحتى 1977، ثم نقيباً للمعلّمين، ثم رئيساً لفرع اتحاد الكتّاب بحمص من 1987 وحتى 2010.
– دواوينه الشعرية:
“مسافة للممكن مسافة للمستحيل” 1977، “في حضرة الماء” 1983، “انـهيارات” 1985، “فصول الجسد” 1992، “الحزن رفيقي” 1994، “على مذهب الطيف” 1996، “الصَّومعة والعنقاء” (قصائد نثر) 2003.
– ومن كتبه النقدية:
“عبد الباسط الصوفي- الشاعر الرومانسي” 1983.
“في تأمُّل الشِعر” – كتابات أدبية – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2008.
عذراً التعليقات مغلقة