يجمع كتاب سيرة جوزيف ستالين على عشقه للسينما، اتباعاً لمقولة لينين أن السينما هي أهم الفنون بالنسبة للحزب، إضافة إلى رغبات الديكتاتور وهواياته الخاصة، وفي كل ليلة كان يجمع ستالين رفاق الحزب في قاعة مخصصة للسينما في الكرملين ليسأل وزير السينما في عهده: ماذا سيعرض لنا الرفيق بولشاكوف اليوم؟
لم يقتصر اهتمام ستالين السينمائي على الأفلام السوفيتية ولكنه أحب الأفلام الأجنبية أيضاً، فبعد انتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية، كان أحد الغنائم التي فرح بها ستالين هي خزينة أفلام ألمانية وغربية، ولا شك أن الحبّ هنا لم يكن فنياً خالصاً، فالزعيم الذي أصبح أيقونة الحكم الأحادي في العصر الحديث، كان يدرك أن السينما هي الوسيلة الأنجع لتشكيل خيال الجماهير وخلق صورة الاتحاد السوفييتي أمام سكانه وأمام الأجانب، وتبرير إجراءاته ومذابحه الضخمة، ولذلك كان يتدخل في دعم الأفلام أو منعها أو حتى تعديلها، إن وجد أنها تقدم تلميحات مغايرة عن الصورة المثالية للمواطنين والحياة وطبيعة الصراع في ظل حكم الحزب.
توارثت السلطات حب السينما أو الحرب معها، لأن حرب الصورة والرواية لم تنفصل عن حروب القوة والسلاح.
إذن، نتساءل على طريقة ستالين: ماذا يعرض لنا الرفيق ديركي عن سوريا في فيلم الآباء والأبناء؟
الفيلم الذي استغرق 330 يوماً للتصوير على مدى عامين ونصف العام وخلال ست زيارات إلى سوريا، حسب كلام المخرج، تم عن طريق خداع أحد الأشخاص القريبين من جبهة النصرة بأن المخرج مناصر للجهاديين ويريد تصوير فيلم عنهم، فأقام في بيت الرجل ومع عائلته وأطفاله، لتكون العلاقة بين الأب وأبنائه محور الفيلم.
الشخصية الرئيسة في الفيلم هو حسين حبوش، المكنّى “بأبي أسامة”، وقد تناقلت صفحات نشطاء من المنطقة خبر مقتله أثناء محاولة تفكيك عبوة قبل أشهر، أبو أسامة يعيش في خان السبل في ريف إدلب، لديه 12 ولداً، سمى ابنه “أسامة” على اسم زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، وابنه “أيمن” على اسم أيمن الظواهري، مختص بالتفخيخ والألغام، هو ليس شخصية جهادية بالمعنى الاحترافي للكلمة، وليس أميراً أو قيادياً في جبهة النصرة، هذا إن كان منظماً فيها بالأساس، وهو أقرب للبساطة وتكرار أدبيات دينية شعبية عن ملاحم يوم القيامة، وإلى مناصرة الظاهرة الجهادية في وجه التدخل الغربي والطموح للخلافة الإسلامية.
يتتبع الفيلم العلاقة بين أسامة وأيمن ووالدهما، الذي يصاب ويتم بتر ساقه، ليعوض عن عجزه عن الجهاد بإرسال أبنائه للتدريب في معسكرات جبهة النصرة، وبينما يتم قبول أسامة المتفوق في المعسكر فإن أيمن يُرفض ويكمل دراسته.
وفي النهاية يغادر طلال ديركي سوريا بعدما تشوهت ولم تعد الوطن الذي يعرفه بسبب السلفية الجهادية.
لماذا هذه الضجة حول الفيلم إذن وهو يعرض واقع حياة عائلة جهادية موجودة فعلاً؟
الضجة في الحقيقة تدور حول سؤال الواقع في الفيلم، أو ما هي سوريا التي يقدمها فيلم طلال ديركي؟
سوريا كما تظهر في فيلم طلال ديركي هي أرض للجهاديين المتطرفين من جبهة النصرة وفي مقابلهم نظام الأسد وحليفه الروسي الذي يحاربهم من بعيد.
يقول طلال ديريكي في بداية الفيلم إنه قد توجه لتصوير الفيلم إلى “أرض الرجال التواقين إلى الحرب”، موضحاً أنها “مقاطعة إدلب الواقعة تحت سيطرة تنظيم القاعدة، جبهة النصرة”، إنها ليست أرض المتظاهرين التواقين إلى الحرية، وليست أرض الشعب الذي وقعت ضده الحرب ليحصل هذا الدمار، ليس هناك سوى جبهة النصرة ورجال مبادرين بسبب شغفهم الذاتي نحو الحرب.
في تلك الفترة من عامي 2014-2015 كانت جبهة النصرة قوة ثانوية في إدلب، ولم تكن تتحكم بمنطقة إدلب كما هو الواقع اليوم في 2019م، وفي تلك الفترة بالذات بدأت جبهة النصرة معاركها ضد فصائل الجيش السوري الحر في الشمال السوري، بدءاً من هجومها على “جبهة ثوار سوريا” (ما بين أيلول إلى كانون الأول 2014)، ثم هجومها على حركة حزم (ما بين تشرين الثاني 2014 إلى آذار 2015) والتي يصدف أن بلدة خان السبل كانت أحد مراكزها الرئيسية وأكبر مستودعات السلاح التي استولت عليها جبهة النصرة من الجيش الحر.
الصراع بين الثورة والجهاديين، أو بين المجتمع المدني والجهاديين، تم تغييبه رغم أنه جرى من قبل الأشخاص أنفسهم وفي المكان والزمان نفسه الذي تم تصوير الفيلم فيه، أمام إبراز كلام “أبو أسامة” عن الحروب مع أمريكا وأوروبا والروم والمعارضة التي في تركيا، ليأتي هذا التغييب في تأكيد تصوير أن الثورة والشمال السوري هو فقط جبهة النصرة وحواضن متطرفة تريد الهجوم على الغرب ويقف في وجهها روسيا والنظام.
القوة العسكرية الوحيدة التي تظهر من مناطق سيطرة الثوار في الشمال السوري هي جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة (يتم ذكر وجود أحرار الشام عرضاً)، والقصف الوحيد الذي يتم عرضه في الفيلم هو قصف استهدف الغرفة السرية لخبير الألغام الجهادي، رغم وقوع عدة مجازر في بلدة خان السبل خلال الفترة نفسها.
والظهور الوحيد لنظام الأسد في الفيلم هو عبر أسرى خائفين يتم سوقهم بين الجهاديين ذوي اللحى المخيفة، تقترب الكاميرا من وجه أحدهم المرتجف بينما يبكي، الشاب المتطوع في قوات الدفاع الوطني –الميليشيا الرديفة لنظام الأسد- هو الشخصية الوحيدة في الفيلم التي يمكن أن يتعاطف معها المشاهد العادي.
حتى الطفل الأكبر أسامة، الذي كان يمكن أن تتعاطف معه، يخبرنا المخرج في النهاية أن براءته وابتسامته انتهت وأصبحت من الماضي.
المجتمع السوري الذي يظهر في الفيلم هي عوائل الجهاديين وحدهم، ولا تظهر أي امرأة فيما عدا صوت بكاء زوجة أبي أسامة حين تُبتر قدمه، ثم في حديثه مع أصدقائه عن الزواج من أربعة نساء معاً، والجغرافيا نفسها تصبح موحشة وجافة بينما المناطق الخضراء تظهر غالباً مع الاقتراب من خطوط القتال مع النظام، مدرسة الأطفال تظهر في مشهدين سريعين في أحدهما نرى المدرّس وهو يضرب الأطفال.
المجتمع السوري في المناطق الحاضنة للثورة كما يرسم صورته طلال ديركي هو بيئة كاملة من العنف والتطرف المستدام والذي يتم صنعه وتوريثه محلياً وذاتياً فقط.
عائلة أبي أسامة هنا هي صورة المجتمع وليست قصة فردية، فنحن لا نرى سواها في الفيلم، والفيلم نفسه اعتمد عليها في البداية والنهاية في استنتاجات عن طبيعة الصراع وعن تشوه البلاد وتوريث العنف للمستقبل.
لا يقدم الفيلم –أي فيلم بالعموم- صورةً عن الواقع كما هو، وإنما عن الواقع كما يريده المخرج، وكما يظهره وينتقي أو يحذف منه حسب الرسالة التي يريد إيصالها، ورسم هذه الصورة بإتقان لإيصال رسالة متماسكة هو غاية أي عمل فني.
لذلك فالتساؤل عن رسالة الفيلم والصورة التي يقدمها عن الثورة والمجتمع السوري وأي سردية يخدم؟، هو تساؤل مشروع وبديهي جداُ، لأن أي عمل فني هو كيان قائم بذاته ويقدم خطابه الخاص، ونقد هذا الخطاب ليس من باب الدخول في النوايا ولا المحاكمات الشخصية، ما الذي يعنيه نقد أي عمل فني إذن ؟
والاعتراض على نقد السردية التي يروج لها الفيلم بأنه ليس تحقيقاً استقصائياً، هو تضليل آخر واستمرار لعقلية التعالي واحتقار المجتمع وتشويهه واستباحته التي أسّس عليها المخرج فيلمه، وكأن نظام الأسد هو تفصيل صغير وثانوي في الصورة من الممكن التغاضي عنه، وكأنه مجتمع من الجهاديين المتطرفين فقط بطبيعته، وهو السبب في دمار سوريا وتشويهها لوحده، ولذلك فهو مجتمع مستباح وبلا حقوق، سواء بخداع آبائه أو تلقين أطفاله، وليس من حقه حتى نقد التهم والسرديات التي تخدم شيطنته واستباحته.
موجة لوم المجتمع بديلاً عن لوم السلطة، قد عادت للرواج في بعض أوساط السوريين والمعارضين أيضاً، لتبرئة الذات وإحالة أسباب الهزيمة إليه: إما بسبب تدينه أو ريفيته أو كونه حاضنة للتطرف، كما ذكرت شخصيات محسوبة على المعارضة -وليس النظام- عن الغوطة أو المنطقة الشرقية أو إدلب اليوم، وهذا عدا عن أنه يقدم صورة كاذبة ومناقضة للواقع عن المجتمع، فهو تنظير مجاني يتم تقديمه لعقيدة الإبادة والتجانس الأسدية التي يتم تطبيقها بصواريخ السكود والسلاح الكيماوي.
تم إنتاج الفيلم ليقدم صورة معدة سلفاً، توافق خيالات اليمين الغربي الصاعد عن الشرق الغارق بالعنف والتطرف والمخاطر والشهوات المخبأة، مكان متخيل وغامض لا يشبه المدن التي نعرفها ولا يسكنه مجتمع وليس فيه اختلافات، يتطابق فيه الأهالي مع التنظيمات المتشددة وتتطابق المعارضة مع التطرف والمقاومة مع الإرهاب، صورة ذهنية نمطية تم حشد هذه الصور والانتقاءات لأجل إثباتها في الحاضر وتأكيد استمراريتها في المستقبل.
من أبسط حقوق السوريين بعد حروب الإفناء وحرب الرواية التي تتم اليوم لطمس تاريخهم القريب وحقوقهم البعيدة، أن يطالبوا صناع السينما السوريين المحسوبين على الثورة والذين عُرفوا وصعدوا إلى المهرجانات العالمية بسببها، ألا يقدموا سينما تطابق بروباغندا الديكتاتور وتمتعه في المساء.
عذراً التعليقات مغلقة