سليمان نحيلي – حرية برس:
أن تجد امرأةٌ جثةً ساكنة معلقة بحبلٍ مربوط بحلقةٍ في السقف وقد فارقت الحياة، ثم يتبين من تحقيقات الجهة القضائية المختصة وتقرير الطبيب الشرعي أن القضية عبارة عن حادثة انتحار وأنه لا جريمة في الأمر، فهذا أمرٌ عاديّ ويحصل في عالم القضاء.
أما أن تكون تلك المرأة في الخامسة والعشرين من عمرها، ومدلاة بحبل من سقف غرفة نومها، وأمّ ٌ لطفلين أكبرهما في الرابعة من عمره، وأن يوجد “سلسالها” الذهبي مقطوعاً من رقبتها ومستقراً على الأرض بعيداً عن مكان تدلّي الجثة، وأن تظهر آثار كدمات على وجهها إضافة إلى آثار تمزق بعض ثيابها، ويحفظ القاضي ملف القضية على أنها حادثة انتحار من دون فتح تحقيق واسع لكشف القاتل وصولاً إلى تحقيق العدالة، فهذا يعني أن الموضوع (فيه إنّ) كما يُقال بالعاميّة، و(إنّ) هذه قد تظهر خفاياها إذا ربطنا تلك الحادثة بالظروف المحيطة بها.
ففي بلد مثل سوريا يحكمه نظام همّه الأول المحافظة على السلطة واستشرى فيه الفساد في كل مناحي الحياة، لا يُستغرب أن يحصل مثل هذا الإخراج الفاشل لمسرحيةِ طمسِ جناية قتلِ إنسانٍ حيّ، بطلها الفساد والاستبداد.
روى لي هذه القصةُ محامٍ زميل لي يقيم في المنزل المجاور لمنزل تلك المغدورة في إحدى قرى ريف حمص، وعلائم التّأثّر واضحةٌ جداً عليه لمصير تلك المرأة التي دُفنت هي وسر قضيتها تحت التراب.
قال زميلي إن ذلك حدث في شهر تشرين الأول من عام 2011، أي بعد اندلاع الثورة السورية بحوالى سبعة أشهر، حيث كان الحراك الثوري السلمي قد امتدّ إلى قريتنا وأصيبت الأجهزة الأمنية بالارتباك والذعر، وكان همها الشاغل كيفية القضاء على المظاهرات وصرف أنظار الناس عنها.
وتابع، أن الوقت يومها كان قبيل الظهر، “ولدى سماعي صوت امرأة مذعورة يأتي من المنزل الملاصق لمنزلي، خرجتُ مسرعاً فكانت حَمَاة ُجارتنا تقول باكية ً (إلحقو البنت ياناس إلحقوها! مشنوقة.. مشنوقة)، فدخلتُ إلى البيت خائفاً لأتفاجأ بجارتنا تتدلّى من حبلٍ مربوط بحلقة في سقف غرفة النوم وقد فارقت الحياة”.
وعلى الفور ذهبت بسيارتي إلى مخفر الشرطة في القرية وأعلمت رئيس المخفر الذي اتصل بمدير الناحية مباشرة، ولم يستمر اتصاله أكثر من دقيقتين، لتنتهي المكالمة ووجههُ مكفهر، وهو يتمتم ببعض الكلمات، وحين سألته عما به، قال لي إن ّمدير الناحية وبخه وقال له: (هلق وقتك، خلّيهم يلتهو عنّا ببعضهم يافهمان، إن شاء الله يذبحوا بعضهم).
ثم عدتُ وكان كثير من أهالي القرية قد تجمعوا قرب منزل المغدورة لدى شيوع الخبر منتظرين مجيء الشرطة.
وبالرغم من أن الناحية لا تبعد عن قريتنا سوى 5 كيلو مترات، إلا أنّ القاضي والطبيب الشرعي ومدير الناحية لم يحضروا إلا بعد مضي 5ساعات، رغم أنه من المفترض أن يحضروا بأقصى سرعة نظراً إلى وجود جثة؛ من أجل القيام بواجبهم بالكشف على مكان الحادثة وعلى الجثة وتحديد سبب الوفاة وإجراء مايلزم من تحقيقات وسماع الشهود.
“وبحكم كوني أول من شاهدَ جثة جارتنا، ولكوني محامٍ دخلت على القاضي ومرافقيه في أثناء إجراء الكشف وقلت للقاضي: “بعد إذنك حضرة القاضي أحبّ أن ألفت انتباه حضرتكم إلى مكان وجود ’سلسال’ المغدورة بعيداً عن مكان تدلي جثتها في الغرفة، وإلى الكدمات التي تظهر على وجهها وتمزق بعض ثيابها، وهذه كلها وقائع تدلّ على عنف تعرضت له المغدورة قبل الشنق، الأمر الذي يشير إلى جناية قتل، وهنا حملقَ القاضي فيّ وقال :(بدك تعلمني شغلي يا أستاذ ، تفضل اطلع برا)، ولم يكن أمامي إلا الامتثال إلى قرار القاضي.”
وبعد عدة أيام ولدى مراجعتي ديوان المحكمة وبحثي في سجل القضايا المحفوظة بشأن يتعلق بدعوى لي، شدّ انتباهي اسم جارتنا المغدورة، وقد كُتبَ على السجل إلى جانب اسمها في حقل الملاحظات: (حُفظت القضية لعدم وجود جرم كون الحادثة انتحار).
ومن خلال أحد الموظفين في المحكمة اطلعتُ على الملف بسرعة، وكانت الصدمة صاعقة حين لم أجد الملاحظات التي أشرتُ بها إلى لقاضي يوم الحادثة، التي ترجح وجود جناية قتل لا انتحار، وطردني لأجلها متذرعاً أنني تطاولتُ على وظيفته ومنصبه.
ولكن المفاجأة الأخرى كانت عند استدعائي إلى أحد الفروع الأمنية وحينما اتهمني المحقق أنني من قتلت المغدورة جارتي تخلّصاً منها بعد أن علمتْ بانتمائي إلى تنسيقية الثورة في القرية.
ولدى إنكاري ذلك قال لي المحقق: (إذاً يا أستاذ يا عاقل، موضوع جارتك لا تجيب سيرتو على لسانك أحسن ما نقصّه لك).
Sorry Comments are closed