وجُـوه.. الشاعر عيسى الشيخ حسن أغانيه مبللةٌ بالحزن والصهيل
بقلم: سليمان نحيلي
في قصائده أحصنةٌ نزقةٌ مشدودة الوثاق، ترى الإنعتاق غايةً ومغامرةً، فيشتعل التمرد في صدرها براكين غضبٍ، تثأر من قيدها بعنوة العاصفة، لتعدو في البراري مورياتٍ قدحا.
وفي قصائده عذوبة أراجيز الأمهات عند مهد أطفالهنّ كي يناموا، وفي قصائده اغترابٌ مريرٌ وحنينٌ لوطنٍ لم يره منذ سنواتٍ كان تأويله ألف قصيدةٍ وعمرينِ من شجن.
ولأن عيسى الشيخ حسن واحد من أبرز شعراء جيله السوريين، فهو يعي تماماً ما للشعر من وظائف، وتبدو الوظيفة الجمالية في شعره محطة بارزة، حنى أن قصيدته تستنهضكَ من الداخل، تجعلكَ تجوب عوالم متعددة فسيحة في ارتماءات الجمال، وهو:
ولدٌ إلا سبع سنابل
يرتكب ُ قصيدته ويغني للأخضر
حين تهيم به الصحراءْ
تشهق في الخطوات مراثيه
تلونه بالفجر النائم
و ذنوب الشعراءْ
يقرأ في الشجر الطالع صبوته
في الشرق الذابل تاريخ الأنهار
المخنوقة
والغيم الزعلان وآهات الفقراءْ
ولدٌ من ماء ٍ وترابٍ وهواءْ
في الشمال السوري الفسيح المفتوح على حضارة مابين النهرين ولد الشاعر عيسى الشيخ حسن، ومنذ العتبة الشعرية الأولى، يعلن الشاعر عيسى الشيخ وقوفه المبدئي والأخلاقي مع الجانب الآخر من مجتمع قسمه الظلم فأظلمت أيامه، ينحاز بحس شاعر إلى الجانب المتعب الفقير المهمّش، ولذلك جاءت بواكير قصائده تحمل هذه المضامين كما في قصيدته (أغنية للضفة الأخرى) حيث يعلن فيها استبشاره وتفاؤله بالتغيير القادم في الغد بالرغم من قتامة الواقع ومرارته مستخدماً رمزية المطر فيقول:
سماءٌ لروحي
سماءٌ لهذا الحطامْ
ستمطرُ ..حتماً ستمطر
سيجهش في راحتينا الحصى
وتعشب فينا المراحل عاماً فعامْ
إنه شاعر رؤيوي، يقرأُ الماضي والحاضر ويستشرف المستقبل، ولذلك ثقته لاتهادن بالخلاص:
فقولي لطيفك لاينثنِ
غداً يتوارى الشتاء الثقيل
وينهض من غربتينا الحمام
ومن المضامين البارزة في مجمل نتاجه، ذلك الحس الانساني الطافي، إنه قلقٌ على مدى التشوّه الذي حلّ بإنسان هذه المرحلة التي يعيشها، حيث بُريت عنه الكثير من السمات الانسانية إلى درجة أنْ اختُزلَ الإنسان إلى مجرد رقم، يقول:
نبدّل الأرقام َ بالأسماء
ويركن ُ المعدود ُ للعدد..
ويكون ألمه الأكبر حين يحلّ ذلك المصير بالشاعر فيبكي:
وحين أرى الشاعر
يذوي في الشارع يحمل دفتره
يصبح رقماً مسفوكاً.. أبكي.
ويرفد الشاعر نصه بالموروث الديني كغيره من الشعراء، لكنّ ما يميز عيسى أنّ ذلك يأتي عبر إشاراتٍ، خارجاً بذلك عن السهل السائد باقتطاعِ شاهدٍ نصّيّ يتم إقحامه في القصيدة، إنه يشتغل على الموروث، ويتعامل معه بذكاء، فهو يستحضر من الشاهد المعنى والرمز والغاية عبر إشارات تحيل القارئ إليه، والأمثلة كثيرة ونكتفي بقوله الذي يحيلنا إلى قصة آدم وأكله الثمرة المحرمة:
ــ في التفاح الأول
ــ وطفقنا نخصف من ورق الكلمات على سيرتنا
وأنت تقرأ لعيسى الشيخ لايَنِي يُهرِق على مسامات الروح والوقت تهطالَ غيومِ إحساسه الشفيف وحزنه الجميل ورقته الذائبة، إنه قريبٌ حدَّ تحسُّ أنكَ من يكتبُ عن ذاته، ومستقلٌ حدَّ أنكَ تشعر أنه يكتب عنك، فهو لايكتب بعيداً عن المتلقي، إنه يتقمص الآخر (الفرد والمجموع)، كأن يقول:
سأموتُ إذا انكسرت جرّةٌ من غناءٍ
على حزني المستباح
ولمْ أنتمِ للبلاد التي تستحمُّ بأشواقنا في مساءٍ يفوتُ
وليس يفوت.. آه .. أموت..
وبحار اللغة لديه واسعةٌ، يجوبها كبحّار خبير مبتعداً عن التقعير والجفاف وذهنيات التراكيب، وهو لذلك نراه عبر كل مجموعاته بشكل عام متحالفاً مع مفردات فصيحة لكنها درجت على ألسنة الناس في لهجتهم المحكية العامية، وأحياناً لايخشى من إيراد مفردات باللهجة العامية والمحلية أيضاً، لكنها في الحالين تأتي متآلفة مع لغة النص الفصحى بحيث ترد في مكانها المناسب تماماً من حيث الحالة المتناولة ومن حيث إيفائها المعنى المراد بشكل جميل، فسجّل بذلك بصمةً خاصة به، يقول شاعرنا:
(ويشيل) الهم ّ – ياعصفور كن (مرسالي ) – نضحك من (غشامتنا) – التعليلة – هلي هلي
جمّلني – وحياتك- في عينيها.
وفي مجموعتيه الأخيرتين (مروا علي) و(حمام كثيف) اللتين كُتبتا بعد نشوب ثورات الربيع العربي، يبدو شاعرنا كمن حلّ الربيع بقصيدته، أوكمن بدأ عهداً جديداً من الإبداع بحيث خرجت نصوصه من عزلتها وذاتيتها إلى الشارع، إلى حياة الناس والحدث اليومي ليصوّر معاناة وآلام شعبه وتضحياته في سبيل حريته وكرامته، فيخاطب أمه في ريفها البعيد في الوطن الذي يذرف الشهداء في معركة الحرية:
هذا الصيف يا أمي
وأنتِ تعلقينَ مسابيحَ الباميا
احسبي حسابي
أُريد مسبحة باميا
لأَعدَّ على حبّاتها الشهداء والنصوص …
وفيما كانت أحداث ثورة شعبه تتصاعد والنزيف السوري يتغازر، كان الشاعر يضع قلبه في قصيدته وينزف مع كل جريح وشهيد، يقول:
القصيدة أكملت
نزفَ المغنين جميعاً…
ولعل الإحساس بالغربة تزيد حدّته حينما تكون العودة إلى الوطن غيرممكنة وغير آمنةٍ بسبب الحرب التي شنها الطغاة على أهله وشعبه، بل إلى أين سيعود وقد دمّرت الحرب ملاعب الصبا وأمكنة اللعب والذكريات، فزاد ذلك من تمزقه وحنينه إلى أهله ووطنه، وتكاد تكون مجموعتاه الأخيرتان بمجملهما عزفاً شجياً على ناي الحنين والعودة والذكريات ومعاني الوطن، كما في هذا المقطع:
كنا هناك
نجوسُ أقمار الذين تبعثروا فينا
ونذوق هاء الله في تهويمة الصوفيّ
إن جرحَ الغيابُ ثياب أسئلتي
أو نرتدي سفر الهلاليّين نحو الغرب
مخنوقين بالذكرى.
وتعتبر رائعته “مروا علي” قمة في وصف مشاعر الغربة والحنين، ولو سمح المقام لأوردناها كاملةً. إذ إن مروراً سريعاً في هذه المحطة لايكفي الحديث عن شاعر فذّ متجدد يواجه الخراب والمنافي بالأغاني حتى لنكادُ نسمعه يُنشدُ عنّا بما يعتملُ داخلنا:
وأُرشدُ النهاوند
ليأخذ الأسماء نحو نشيدهم
أولئك الذين سلّموه مفاتيح القصيدة من ليل و حزنٍ وغياب ثم تركوه وحيداً يبوح بشفافيةٍ سامية:
مرّوا علي ّ
وأولموا حبراً قليلاً للمساء
وحلّقوا في الحزنِ ليلاً
ثمّ ناموا….
الشاعر عيسى الشيخ حسن في سطور:
- شاعر سوري من مواليد قرية أم الفرسان في ريف القامشلي بمحافظة الحسكة، في العام 1965.
- يحمل إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة حلب، ويعمل مدرساً في دولة قطر.
- فاز بالعديد من الجوائز الأدبية منها: جائزة الشارقة للإبداع الأدبي، وجائزة عبد الوهاب البياتي، جائزة عكاظ، وكتبت عن تجربته الكثير من الدراسات الأدبية.
- صدر له: “أناشيد مبللة بالحزن” – شعر – في العام 1998، و “ياجبال أوّبي معه” – شعر – في العام 2001، و”أمويون في حلم عباسي” – شعر- في العام 2005، و”كأن الريح” في العام 2006، و”مروا علي” – شعر – في العام 2015، و”حمام كثيف” – شعر – في العام 2016.
عذراً التعليقات مغلقة