محاولتان فاشلتان لانتخاب السيد الرئيس

محمد السلوم25 ديسمبر 2018آخر تحديث :
محمد السلوم

صيف عام 2000، البلاد تستعد لانتخاب رئيس جديد وأنا أستعد لدخول الجامعة. قال لي أحدهم: هل ستنتخب الرئيس؟ قلت: لا أعلم.. ربما. قال: يجب أن تنتخب إذا لم تفعل لن تدخل الجامعة! سألته: ما علاقة هذا بذاك؟ فقال: عند التسجيل في الجامعة سيطلبون بطاقتك الانتخابية ليتأكدوا من أنك مارست حقك الديموقراطي. وإذا لم تكن قد مارسته سيمارسونه عليك بمنعك من الدراسة!

لم أقتنع بكلامه، ولكن معرفتي بأن لا مستحيل في دولة البعث دفعتني إلى زيارة دائرة السجل المدني لاستخراج بطاقة انتخابية. قطعة كرتون بيضاء تحمل صورتك الشخصية، وجدولاً فيه عدد من الخلايا من المفترض أن يوثّق قيامك بممارسة حقوقك الديموقراطية؛ حقك الديموقراطي بانتحاب السيد الرئيس، حقك الديموقراطي بانتخاب أعضاء مجلس الشعب، حقك الديموقراطي بانتخاب أعضاء الإدارة المحلية، وهكذا…

حصلت على البطاقة ووضعتها بجانب الدفتر الديموقراطي للحصول على المواد التموينية من سكر ورز وشاي، وغير ذلك من دفاتر ووثائق ديموقراطية كانت ضرورية لنرميها في وجه كل من يشكّك بديموقراطيتنا ودولة المؤسسات السورية.

جاء اليوم الموعود، زُينت الشوارع والساحات ونصبت حلقات الدبكة، اليوم سيتم انتخاب السيد الرئيس. السيد الرئيس الجديد هو ابن السيد الرئيس القديم، وهنا تنتهي ذاكرتي عن “منصب الرئيس” في دولة الحضارة ذات العشرة آلاف سنة، فكل ما أعرفه أن حافظ الأسد كان رئيساً لسورية قبل ولادتي وكان من المفترض أن نموت جميعاً وأن يبقى خالداً، ولكنه بطريقة ما مات! لذلك كان علينا انتخاب ابنه ليتابع الدرب، في الحقيقة هو من سمح لنا بانتخابه. وبعد تعديل الدستور ليصبح مناسباً لعمر الرئيس الجديد أصبح الجميع جاهزاً لممارسة حقه الديموقراطي.

لم يكن الانتخاب انتخاباً بمعنى الكلمة، فورقة التصويت اسمها “ورقة استفتاء”، وتحمل اسماً واحداً فقط، كُتِب عليها: هل توافق على مرشح مجلس الشعب السيد الدكتور بشار الأسد لمنصب رئاسة الجمهورية؟ وتحت ذلك دائرة خضراء للموافقين في اليمين ودائرة سوداء لغير الموافقين في اليسار.

قبل الانتخابات نبهني كبار العائلة إلى ضرورة تعبئة الدائرة الخضراء، ولأنها تجربتي الأولى سألوا الله لي الثبات في هذا الموقف العظيم وعدم الزلل يساراً –وأنا الأعسر- نحو الدائرة السوداء لما قد يترتب على ذلك من ضياع للمستقبل الشخصي والعائلي والأقارب حتى الدرجة الرابعة!

بصعوبة بالغة وجدت مكاناً لنفسي في المركز الانتخابي بين جموع المواطنين الفرحين بالممارسة، مددت بطاقتي الانتخابية لرئيس المركز فقال لي: نعم؟ قلت: أريد أن أنتخب. فنظر إلى شخص بجانبه كان يمتطي صندوقاً وقال له: ضع له صوتاً. حمل الموظف الآخر ظرفاً أبيض مغلقاً ووضعه في الصندوق. بقيت واقفاً منتظراً. فقال لي: ماذا تريد؟ فقلت: لم أنتخب بعد. فقال: انتخبت وانتهى الأمر، هيا تحرك ودع غيرك يمارس حقه الانتخابي. قلت: ولكنك لم تختم على البطاقة. فقال: لا داعي لذلك!

وهكذا خرجت من المركز غاضباً جداً، لم تزعجني في الحقيقة مجريات عملية التصويت وكيف تمت، فمن الواضح أن القيادة حريصة علينا ولا تريد منا أن نمارس حقنا الديموقراطي بطريقة خاطئة ولذلك تولّت هي عناء هذه الممارسة، ثم إن الرئيس السابق قالها صراحة: الديمقراطية لا تعني الفوضى السياسية وتتطلب التنظيم الذي يوفر الحرية ويصونها. وليس بعد هذا التنظيم تنظيم!

ولكن أين الختم! لابد من الختم، كيف سأدخل الجامعة بدون ختم يثبت أني مارست حقي في انتخاب سيادته!

وأمام هذه المحاولة الفاشلة في إدلب كان عليّ المحاولة مجدداً ولكن هذه المرة في حلب، كان لدي موعد مع بعض الأصدقاء في حلب في مساء ذلك اليوم، فانطلقت إليها مبكراً وكلي أمل بالوصول قبل إغلاق الصناديق. ولحسن حظي، وكما هي العادة في كل انتخابات رئاسية “ونظراً للإقبال الجماهيري الكبير” تم تمديد الوقت. وهكذا وصلت إلى حلب، دخلت إلى أحد المراكز الانتخابية الذي كان خاوياً تماماً وكأن الإقبال الجماهيري الكبير لم يعلم بأمره. ثم دخلت غرفة التصويت، وكما كان المشهد في إدلب كان هنا، رئيس المركز على طاولة يشرب الشاي، وموظف يمتطي الصندوق. قلت له: أنا قادم من إدلب وأريد انتخاب السيد الرئيس… هل يمكنني ذلك؟

ضحك وقال: أهلاً وسهلاً.. طبعاً طبعاً. ونظر إلى الموظف بجانبه وقال له: ضع له صوتين لأنه قادم من مكان بعيد. سحب الموظف ثلاثة ظروف بيضاء مغلقة ووضعها في الصندوق قائلاً: وهذا واحد على البيعة!

قلت: ألن تختم البطاقة؟ فقال: لا داعي لذلك. وهكذا خرجت خائباً مجدداً بعد فشل آخر في انتخاب سيادته والحصول على الختم.

مساء قصصت ما حدث معي على والد صديقي، ضحك مطولاً، وعندما عبرت له عن مخاوفي بخصوص الختم قال: لا تخف، فالقيادة تعرف جيداً أن الشعب كله مارس حقه الديموقراطي وانتخب سيادته. قلت له: وماذا لو ظنوا أني من أصحاب اليسار؟ فقال: لا لا لن يظنوا… أولئك الذين تسوّل لهم أنفسهم التصويت ضده لن تراهم أبداً، لا في الجامعة ولا في أي مكان آخر.

ما تزال البطاقة الانتخابية لدي، بيضاء نظيفة من أي ختم، وما زلت مصراً على الاحتفاظ بها، آملاً أن أعرضها يوماً على أولادي ليتحسروا على فقدانهم حق الممارسة الديموقراطية في بلد لا أرجو لهم رؤيته يوماً!

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل