شعراء من أجل الوطن.. عبد الرحيم محمود ودوروس ألويزو أُنموذجا

محمود السرساوي16 ديسمبر 2018Last Update :
محمود السرساوي
الشاعران الفلسطيني عبد الرحيم محمود والقبرصي دوروس ألويزو

تستحق الكتابة الإبداعية أن نلوذ إلى محرابها في العاديات، وأن نعيد صياغة واقع يؤلمنا لنقدم وجوبه قبل وجوده، فشاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود بدا مختلفاً إذ الشعر هو طريق الحياة، والدم بوصلتها الأولى.. حيث يتساوى تحقيق المبادئ مع الحياة والموت، فأما حياة تسر الصديق وأما ممات يغيظ العدا، وبهذا تتطابق سياقات الدفاع عن المعنى مع الشاعر القبرصي دوروس الويزو فكلاهما ناضل من أجل قضية شعبه وكلاهما قدما روحيهما فداء لما آلم به. فيد الكتابة هنا بمثابة الميزان الذي يحدد الزلزال بتعبير “لوكليزيو “. فربما بحث الشاعر اللبناني خليل حاوي عن خلاص فردي ما لتحقيق نبوءة شعرية جماعية طالما حاولها في انبعاث  الأمة من خلال رحيله انتحارا محتجا على الاجتياح الصهيوني لبيروت العام 1982، وقد يكون المتنبي صريع شعره دفاعا عن معناه، ولكن أنموذج الشاعر المقاوم الذي يتطابق قوله مع ممارسته وصولا للامتلاء بذاته فكرة وعملا، تنطبق أشد الانطباق على شاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود.

الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود

ولد الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود في قرية عنبتا الفلسطينية التابعة لقضاء طولكرم في العام 1913 ودرس الابتدائية في مدارسها، وأكملها في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، قبل أن يعمل مدرسا فيها لمادة الأدب العربي ويقدم استقالته لاحقا إثر اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936 ليلتحق في صفوف المجاهدين في جبل النار، وقد طاردته حكومة الانتداب البريطاني بعد توقف الثورة، فهاجر إلى العراق ملتحقا بالكلية الحربية لمدة ثلاث سنوات قبل أن يعود في العام 1942 ليتابع النضال منضما إلى الثورة ضد التقسيم في العام 1947 حتى لحظة استشهاده في 13 تموز من العام 1948.

ويكفي أن نذكر قصيدة “الشهيد” التي أمست من عيون الشعر الكفاحي وقمة من قممه الفارعة التي ترسخت في ذاكرة الأجيال لتؤكد ما نراه:

سأحمل روحي على راحتي        وألقي بها في مهاوي الردى

فأما حياة تسر الصديق                 وأما ممات يغيظ العدا

ونفس الشريف لها غايتان   **  ورود المنايا ونيل المنى

وهذا “النبض الصميمي” يكشف عن روح تواقة، وشغف عارم، في الدفاع عن كرامة الإنسان وكرامة الوطن، فغايتا نفس الشريف “ورود المنايا ونيل المنى”.

ولايأتي نيل المنى دونما إيمان بالتضحية، ولكن ما يلاحظه – الناقد المتابع – هو تمكن الشاعر من لغته إذ بدت علاقات الاستبدال على محور اللغة طيعة بين يديه كما الصلصال، ولا نتفق مع رأي بعض النقاد عن كلاسيكية منجزة الشعري التي لا تختلف عن سواه من كتاب قصيدة العمود آنذاك، فالبلاغة البيانية ليست في الاستعارات والتشابية وحسب، وإنما في قدرته على تقديمها بسلاسة وقوة دونما تقعير في اللغة، أو طغيان للمفهوم، وإثقاله ببديع متكلف، وأعتقد أن أهم ميزات هذا الشاعر مهارته في الحفاظ على التوازن بين المبنى والمعنى في شعره، وبين السبك المتقن للتشكيل و حرارته الداخلية، وهذه الخصيصة الأخيرة قلما أجادها الشعراء حتى في أيامنا هذه، ولطالما كان الاهتمام بالمبنى على حساب شرف المعنى كما يذهب نقادنا القدامى، أو تحضر العواطف الحارة هنا، وتغيب الجمالية الفنية هناك، أو تستغرق التقنيات الشاعر، فيكتب قصيدته كأنما يرسم شكلا هندسيا مجردا من وجد الروح الشعرية ومكابدتها عكس ما نلمسه عند شاعرنا:

لعمرك إني أرى مصرعي ** ولكن أغذّ إليه الخطى

أرى مصرعي دون حقي السليب ** ودون بلادي هو المبتغى

يلذّ لأذني سماع الصليل  **  ويبهج نفسي سيل الدما

والحقيقة أن الشاعر يذهب نحو قيمة الشهادة في سبيل الحق وتقديس معناها، وليس ما يمكن أن يخاله البعض للوهلة الأولى عن توق لسيل الدماء، فالشاعر يرى مصرعه من أجل حقه السليب، ومن أجل وطنه المنتهك هو المبتغى، فالشعرية في سياقها التاريخي هنا ليست معطاة أو سهلة المنال أولا تحتاج لتفحص وتفكر ومعالجة، فلكل شاعر أسلوبيته الخاصة في مقاربة موجوداته التي يفترض ألا تكون نسخا أو مسخا لتجارب الآخرين وتأسيساتهم، ومن الضروري الإشارة هنا إلى الحساسية الإبداعية الخاصة التي انطوت عليها شخصية شاعرنا الشهيد تلك التي قادته إلى استشراف المآل، وتحقيق رؤيته بنيل الشهادة، فمعركة الشجرة التي استشهد فيها لم تكن أولى المعارك التي يشارك فيها، وإنما كانت خلاصة فذة لشعرية عميقة تمتلك مشروعيتها في خارطة الشعر الفلسطيني والعربي، وتتويج لملحمة حياتية ونضالية عاشها الشاعر بتوحد فريد في النظر والعمل.

وهذه الرؤية بحساسية ابداعية مفارقة أيضاً نجدها عند الشاعر القبرصي دوروس الويزو.

الشاعر القبرصي دوروس الويزو

ولد الشاعر دوروس في نيقوسيا سنة 1944 وهو الابن الأول لبايرون ولاورا لويزو.

أنهى تعليمه الابتدائي في مدرسة القديس انتوني 1949-1955 وشارك بفعالية خلال فترة النضال ضد الحكم البريطاني.

سافر سنة 1966 إلى أثينا لدراسة إدارة الفنادق وتابع دراسته في نيويورك، ثم انتقل إلى بوستن لدراسة التاريخ في الكلية الهيللينية.

كتب الشعر اثناء فترة دراسته، وعندما عاد إلى قبرص عمل كمدرس للتاريخ والأدب ولكنه ترك التعليم لكي يتفرغ لعمله السياسي سنة 1973.

ناضل ضد الانقلاب الدكتاتوري، واعتقل بسبب نشاطه السياسي وأطلق سراحه بعدها لكنه بات في حالة تهديد مستمر من الجونتا، واغتيل في 30 آب من العام 1974.

يقول مؤكداً على أهمية الشاعر وخطورته مستشرفا مصرعه في أي لحظة:

شاعر يمر بيننا الآن ويتحرك

احذروا إن التقيتموه دائما

ثمة من سوف يطلق النار

دون سابق انذار

فالشاعر يشكل خطرا عليه

وهذه اللمحة غدت حقيقة باغتياله عام 1974م

وفي مكان آخر في نص مهدى لفيديركو يقدم هذه الرؤيا كيقين:

إنهم قادمون من جديد فيديريكو

عيون سوداء، قلوب سوداء

بفوهات البنادق السوداء

قادمون كي يقتلونك من جديد فيديريكو

سيدفنونك مرة أخرى .. سيدفنونك مع الآخرين

مع الناس الكثيرين

مع الناس الصغار

وبعدها سيقولون أنهم قتلوك خطأ”

سيقولون أنه كان حادثا بريئا

كانت محض صدفة

صلي من أجلنا

يا مريم

من أجل كل الأبرياء الذين هم فيديريكو

من أجلنا نحن الذين يقتلوننا بالصدفة

عن طريق الخطأ

وكما نلاحظ يفاعة التشيكل الشعري وبساطته وحساسيته الجارحة وتوقد لحظته الداخلية مؤسسا على الحالة وتفاصيلها وفكرتها، ومركزا على معنى محدد باعتبار اللحظة هنا خارجية حيث الكتابة تهتم بالمتعين والمعطى وما يتناثر على سطح الانكشاف الأولي للحواس على موجوداتها دونما استطراد وحشو أكثر من بحثها عن عمومية الدلالة الواسعة المتعددة ضمن كشف جامع واحد. فالشاعر الفلسطيني والقبرصي بلغتين مختلفتين وبفترتين زمنيتين مختلفتين أيضا التقيا بزاوية الرؤيا وفهم دور الشعر والشاعر واتسم شعرهما بعمق البساطة وانكشاف المعطيات المتناولة وغليان قارتها الداخلية.

وربما لم يتسن للشاعرين أن يكملا مشروعهما الشعري إذ رحل عبد الرحيم محمود ولم يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، وكذلك اغتيل دوروس في ذروة شبابه.  إذن فرادة الشاعر عبد الرحيم محمود ودوروس الويزو لا تخص سيرتهما الحياتية فقط إنما تمتد للشعرية أيضا، وهذه الإضاءة ليست أكثر من  تحية حب وتقدير لشاعرين قدما روحيهما فداء للوطن ودفاعا عن كرامة شعبهم. .

من شعر الويزو

  • 1

إلى أبي

ولكني، يا أبي الصغير

انا الحر العظيم

أحمل في راحتي الضوء كبوصلة

كأشعاري عن الوطن الأم

وأبقى مستيقظا كحارس في باحات العالم

ومعي الحقيقة كسلاح

واشعاري كذخائر

تمضي القرون، الناس ، الممالك

الأصوات، الذكريات، الأشكال

ولكنني أبقى هناك مع أغنيتي.

ابي الصغير

أبنك، الحارس العظيم للحدود

يستيقظ عند المتراس

ألف و تسعمائة – وتسعة- وستون أو ما يقارب ذلك من السنوات

يمكنك أن تنام مبتسما الآن

وبدمي  احلامك،

  • 2

ولا تكلمني

ولا تكلمني عن الجولات الشاحبة على القمر

الأحلام المغموسة بالعسل

الملائكة المجنحة

النعمة السهلة

المشاعر المريضة

جد شخصا غيري

أعرف بأني بائس

اذا كنت تظن أن عليك أن تتكلم معي

تكلم معي

بدموع حارقة

برعشة وألم

كلمني

مع نار وصواعق

مع هدير ودم

ولكن لا تملأ أذني

بالأصوات العبثية الناشزة

 

  • مقاطع الشاعر دوروس ألويزو ترجمة: كفاح جهجاه
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل