وليد أبو همام – حرية برس:
في الأيام الأولى من عمر ثورة الكرامة السورية، كانت الأحداث المتسارعة تبدو للسوريين أعجوبة، فلم يكن يخطر في مخيلتهم أن يأتي يوم يصرخ الضحية في وجه جلاده ويكسر قيود الذل والخوف.
في مدينة حماة التي ذاقت بعضاً من كراهية وجرائم نظام الأسد الحاكم فيما مضى، كانت ما تزال عيون النظام ترقب كل حركة فيها خشية زلزال كبير يقض مضاجع نظام الاستبداد.
وبالنسبة لشباب مدينة حماة، كان التفكير في المشاركة في الثورة السورية بمثابة الانتحار، حيث زرع نظام الأسد في كل شارع حاجزاً لقواته وشبيحته، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الشجعان من الالتحاق بصفوف الثوار رغم الخطر الذي يحيط بهم وبعائلاتهم من كل جانب.
وذات صباح باكر، قامت مجموعة من شبيحة نظام الأسد بكسر باب بيت إحدى العائلات من المدنيين واقتحموه كالوحوش بأصواتهم العالية وأشكالهم المرعبة وحقدهم العميق، موجهين بنادقهم نحو رؤوس كل من في البيت وكأنها آخر لحظات يعيشونها في هذه الدنيا.
بدأ الشبيحة بضرب أفراد العائلة والصراخ في وجوههم وتكسير كل شيء أمامهم، كان هدفهم القبض على ’’عامر‘‘ ذلك الشاب الذي كان يشارك في المظاهرات إلى أن أمسكوه من شعره وجروه أرضاً مع كل ما باستطاعتهم من الضرب المبرح الوحشي، ثم خرجوا به وغابوا عن أنظار أفراد العائلة وأصوات الضرب والصراخ تملأ الشارع، غير أن أحداً من عائلته لم يستطع التحرك وفعل شيء من أجله.
كل هذا المشهد الوحشي جرت أحداثه على مرأى من ’’حنين‘‘ ذات الأربعة أعوام، عمرها لم يكن كافياً ليجعلها تتحمل قساوة هذا المشهد الذي فقدت فيه أخاها، ما أدى لإصابتها بمرض السكري مباشرةً، ولتبدأ رحلة معاناتها مع هذا المرض.
مرت الشهور على تلك الحادثة ومازال مكان عامر مجهولاً والمرض يتفاقم مع حنين وخاصةً بعد أن أصبح التحرك في المدينة صعباً بسبب حواجز قوات أمن نظام الأسد وجرائمهم المتكررة بحق المدنيين، والأصعب من الخروج إلى الشارع كان تأمين دواء الأنسولين للطفلة “حنين”.
بدأت هذه الطفلة بالذبول أمام أعين والديها دون أن يستطيعا فعل شيء لها، فلم يعد بإمكانهما التفكير إلا بتغيير مكان سكنهم، ما أجبر العائلة على النزوح والاستقرار في مدينة حمص مع كم كبير من المعاناة في السكن وتأمين الطعام في سبيل أن تبقى هذه الطفلة بصحة جيدة، لكن الأحداث كانت تتفاقم بسرعة وأصبح الموت يحصد الكثير من الأرواح يومياً، لا يهمه من يأتي في طريقه.
ضاقت الدنيا بعائلة حنين وساقها القدر كما الآلاف من اللاجئين السوريين الفارين من جرائم الأسد إلى لبنان، لتجد اسرة حنين نفسها تحت خيمة يفترشون الأرض، والطفلة أعياها الترحال، وعلى المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة عاشت هذه العائلة دون الحاجة لأحد، حيث قدمت بعض المراكز الصحية الخيرية دواء السكري لحنين لكن هذه النعمة التي كانت تمنحها الحياة لبعض الوقت لم تستمر، فبعد ثلاث سنوات أوقفت المساعدات وبدأ ضيق العيش يتغلب على عائلة الطفلة إلا أن الأمر الذي زاد الطين بلة هو توقف المراكز الصحية عن تقديم الأنسولين المجاني لمرضى السكر، ومع حالة هذه العائلة وغلاء الأدوية لا يمكن التفكير بشراء الدواء.
بدأ الموت يحيط بحنين التي لا يمكن أن تعيش يوماً بدون دواء، لكن عائلتها لم تكن لترضى أن تتخلى عنها ورؤيتها تموت أمام أعينهم دون أن يحاولوا ما يستطيعون لإنقاذها.
ولم تجد العائلة خياراً لتجاوز ضيق ذات اليد إلا دفع طفل من أبنائها نحو خيار صعب ومؤلم، لكنه ليس أصعب من موت طفلتهم، فأخوها الصغير الذي لم يعرف من الحياة غير قسوتها وقصص الموت والتشريد كان عليه أن يضحي بطفولته، ويتنقل بين البيوت متسولاً، والعيون ترمقه بكثير من الكراهية والاشمئزاز عله يحظى بمن يملك قليلاً من الإنسانية ويعينه لشراء الدواء.
لم تستطع حنين مقاومة مرضها، فكثيراً ما غابت عن الوعي، والضعف طغى على كل جسدها حتى لم يعد هناك من وسيلة لوقف تدهور صحتها، فبات الموت أقرب إليها من أفراد عائلتها، وبقيت تصارعه أياماً قليلة حتى تمكن في النهاية من قهر ضعفها وما تبقى من جسدها الهزيل.
أغمضت حنين عينيها لآخر مرة على نظرات والديها التي تقول: سامحينا يا حنين فقد تخلى العالم عن السوريين وتركهم للموت بنار الأسد وقهر التشرد، وهذا كل ما نستطيع أن نقوم به لأجلك!
عذراً التعليقات مغلقة