باريس – خاص حرية برس
دخلت احتجاجات “الستر الصفراء” في فرنسا يومها الخامس نتيجة رفع أسعار المحروقات وضرائب الكربون، فيما أظهرت استطلاعات رأي هبوط شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون إلى حدود 25%.
تضرب فرنسا موجة احتجاجات شعبية واسعة بدأت يوم السبت 17 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري؛ وتتميز تلك الاحتجاجات بالستر الصفراء الموحدة التي يلبسها المحتجون ولذلك أطلق عليها بالفرنسية “GILETS JAUNES”؛ وقد بلغ عدد المتظاهرين في عموم فرنسا وفق إحصاء وزارة الداخلية نهاية يوم السبت 287000 شخص في 2000 نقطة أو حاجز جرى فيها إغلاق الاوتسترادات والطرق الرئيسية المحيطة بالمدن، كما فرض المحتجون حصاراً في وسط العاصمة باريس وعلى قصر الإليزيه؛ وفي المواجهة التزمت الحكومة الصمت أولاً وراهنت على انحسار الموجة مع نهاية عطلة الأسبوع؛ واستمر المحتجون رغم البرد القارس وقاموا بمواجهات مع رجال الشرطة وعملوا على وضع نقاط تمركز جديدة؛ وأدى صمودهم لازدياد وتيرة التعاطف الشعبي معهم بشكل واسع؛ وبدأت تظهر دعوات للتوجه والتجمع في باريس مما ينذر بتطور الأمور بشكل غير مسبوق؛ وقد حدثت مشادة بين رئيس المجلس النيابي والنائب جان لاسال على خلفية السترة الصفراء التي ارتداها في المجلس.
اندلعت الاحتجاجات على خلفية رفع أسعار المحروقات وضرائب الكربون بشكل كبير مما يؤثر على تكاليف عمليات النقل والتنقل ويفرض أعباء إضافية على الموظفين رغم الوعود الحكومية بتقديم تعويضات عادلة؛ ويندرج ذلك ضمن سعي الرئيس ماكرون لتمرير خططه الإصلاحية الموعودة التي أدت من قبل لنشوب موجات متتالية من المظاهرات والاحتجاجات الواسعة أدت لانخفاض شعبيته بشكل مستمر وصلت عند حدود 25%؛ نجح ماكرون في مواجهات سابقة ومرر برامجه في المساعدات الاجتماعية والرعاية الصحية والتقاعد والتعليم والتوظيف والتقاعد والصحة وغيرها؛ واستطاع تمرير عملية إصلاح السكك الحديدية بعد معركة طويلة وصعبة مع النقابات العمالية.
سعى منظمو الحراك لترسيخ البعد الاجتماعي له من خلال عدم مشاركة الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، ومع ذلك لوحظ ظهور قيادات من أقصى اليمين وأقصى اليسار ضمن المحتجين.
يطلق على الرئيس الشاب ماكرون لقب رئيس الأغنياء بسبب سياساته التي يحابي فيها كبار رجال الأعمال والمصارف والتي تتهم بإيصاله للرئاسة لضمان مصالحها من خلال حزب سياسي ناشئ متجاوزاً الأحزاب السياسية التقليدية.
تتمتع فرنسا ببرامج رعاية اجتماعية شاملة مصنفة في المقدمة عالمياً؛ ويخشى الفرنسيون أن تؤدي خطط ماكرون لتفكيك ذلك النظام الذي هو نتاج نضال اجتماعي طويل وشاق، ويؤكد مخاوفهم ما يقوم به من تخفيضات مستمرة في الرواتب والمساعدات والخدمات والتي أدت بالفعل لتراجع القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي مع ازدياد التضخم وارتفاع الأسعار؛ واستمرار الحراك يعني ازدياد مستوى التأييد الشعبي له مع استقطاب منظمي الحركات السابقة من مزارعين وموظفين ومدرسين وطلاب وأطباء وممرضين ومتقاعدين وسواهم، ويمكن أن يتحول لحركة اجتماعية شاملة فيما لو انضمت إليه النقابات العمالية القوية في فرنسا رغم أنه لم يصدر لها موقف موحد حتى الآن؛ وما يضر بالحراك تحوله لعصيان مدني شامل بإغلاق مستودعات ومنشأت حيوية ومتاجر كبيرة وقد بدأت الأثار السلبية تظهر على حركة الأسواق؛ وقد تظهر مراجعات قانونية تمنع الحراك بسبب الخسائر والأخطار الناجمة عنه مع سقوط مزيد من القتلى والجرحى؛ رغم المرونة الواسعة التي يتمتع بها القانون الفرنسي في حقوق التجمع والتظاهر.
التحدي الأكبر الذي يواجه ماكرون خسارة الأغلبية النيابية وتحوله لرئيس ضعيف، وتطرح المعارضة ضرورة مراجعة ذلك بعد انسحاب حليف ماكرون القوي فرانسوا بيرو من الحكومة.
إضافة لضررها الداخلي الواسع على ماكرون تضعف الاحتجاجات من سياساته وطموحاته الأوروبية وما كان طرحه من تشكيل جيش أوروبي موحد وجعله في مواجهة مباشرة مع الرئيس الأمريكي ترامب؛ ويزيد من ذلك رحيل حليفته القوية المستشارة ميركل بشكل طوعي عن عالم السياسة.
هل ستشكل حركة الستر الصفراء علامة فارقة تؤثر على مستقبل الحياة السياسية الفرنسية بينما يزال الحنين يسوق الفرنسيين لذكريات احتجاجات مايو 1968؟ هل يستطيع ماكرون تجاوز هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة داخلياً؟ رغم التراجع الواضح والمستمر في دورها ونشاطاتها فإن هذه الاحتجاجات تشكل فرصة مناسبة لعودة قوية للنقابات العمالية والحركات اليسارية لاستلام الريادة وهو ما لم يظهر بعد.
عذراً التعليقات مغلقة