أسهل ما يمكن أنّ يفعله هذه العالم القذر هو: القتل! تتعدّدّ أمزجة الطّغاة وأنظمتها المجرمة من أيدولوجيات مزيفة ومصالح دوليّة ويبقى أرخص ما يمكن التّداول به هو البشر، قد يكون هذا هو درس الصّحفي المغدور جمال خاشقجي، الذي اغتيل في القنصلية السعودية بشكل ما. سلطات المملكة قالت “مات بمشاجرة، خنقاً”، الشرطة التركية قالت “تم تقطيعه بمنشار كهربائي” وصحف أخرى حصلت على تسجيلات صوتيّة لتعذيب الضحيّة، لقد تحوّل الأمر إلى قضية رأي عام إشكاليّة، ثم ماذا؟
سواءً اختلفتُ مع الصحفي الرّاحل أو اتفقتُ معه شخصياً، إلاّ أنّي أعتبر قتله جريمة مُدانة وهي صفقة أمنيّة ربّما، الهدف منها مكاسب سياسيّة للدول اللّاعبة في المنطقة، لم أقتنع أنّ الأمر مجرّد تصفية حساب بين الصّحفي الّذي كان مقرّباً جداً من آل سعود، وبين بعض الأمنيين الّذين “خرجوا عن طاعة الملك” لجلب هذا الصّحفي، وهم ربّما، الرجال الذين قالت السعودية “إنّ عددهم 18 سعوديّاً” وإنّهم “قيد التحقيق بالقضية”.
ولكن لماذا تم السّكوت عن موت الرجل كلّ هذا الوقت أي ما يقارب أسبوعين؟ ولماذا لم تتدخل الشرطة التركية إلا بعد مضي وقت طويل نسبياً على إعلان اختفائه من قبل أقاربه؟ ثمّة مئات الخيوط المتشابكة الّتي دفعت عشرات المنابر الإعلاميّة لحذف تغريدات في موقع تويتر وتغيير صيغ أخبارها على مواقعها الرسميّة بشكل متناقض ومثير للشبهة كلّ يوم والثاني والحقيقة مُشوّشة!
يبقى الأمر حتّى اللّحظة صفعة مُميتة لرجل كان يكتب فقط، حسب ما رأينا، لا ندري ما بين سطوره من علاقات دوليّة ومكانة سياسيّة، وبالتالي سهولة أن تقتل أيّ دولة صحفياً أو كاتباً معارضاً لها بعد تشريع المبرّرات كالمشاجرة إياها وفي مكاتب دبلوماسية آخر ما قد يكون متوقعاً أنّ يحدث بها هو “القتل”، فإنّ ذلك كارثة إنسانيّة بكلّ المقاييس المؤلمة، وهذا العالم المُجامل والمُدّعي لحقوق الإنسان يختار زعماؤه الكلمات الدّبلوماسيّة بعناية للتعبير عن مواقف كانت تتطلب الصدق والوضوح والمباشرة واحترام عقول الشّعوب. إلاّ أنّ ما قرأناه كان تطمينات سياسيّة مُبطنة لأشكال الحساب المُقبل والانتقام المُتوقع بين الدّول الكبيرة والدّول الّتي تقدم خدمات لها ولخصومها!
إنّ ما سبق، هزّ العالم وتسبّب بأزمة لا أحد يعرف مدى تأثيرها وتغيير أدوار العرب في تنفيذ مخططات الغرب وروسيا وإيران للهيمنة على قرارهم وكراسيهم، وتبدو العودة للأدب والأحلام الثقافيّة والتّفكير بالمشاغل الشخصيّة الّتي يمكن التواصل من خلالها مع هذا العالم، أكثر إنسانيّة وقرباً لنا. وأيّ تواصل نرجوه من أشخاص يناقشون مستقبل أبناء اللّغة العربيّة بالبندقية والمشنقة وتقطيع الأوصال؟
لِنَرَ قليلاً، مجنون جرّ جيوش العالم ليحافظ على رأسه فوق جماجم الشّعب، وآخر أفلت يد العسكر على رقاب النّاس ليواجه بلاء الدّين السّياسي كما يدّعي، وثالث ينتظر هبوط الأولياء الصالحين على محراب المقامات والعمائم السّوداء أو البيضاء. أنظمة قاتلة تمشي تباعاً لشريعة الغاب والحُكم للأقوى والأكثر وحشيّة بينهم، ثمّ كيف سوف تكون الحياة بعد ذلك؟
نحن بشكل أو بآخر نقبل بموتنا على مذبح الكلمة، لم يكن أمامنا إلاّ أن نقول ونكتب في هذا العالم المُتفاقم بفصامه وتخلّيه عن المسحوقين، نكتب ولا ندفع بالعنف ليكون وسيلة نقاش وجدل وبحث عن مستقبل حضاري لأحلام التّحرّر، ولو هربنا من سيف الجّزار إلى بلدان غريبة يُلاحقنا عَسَسُه في المُغتربات وعلى صفحات الانترنت!
أتحدث عن الإنسان الّذي قَبِلَ أن يكون قاتلاً، وبعد فترة وجيزة سوف يكون مقتولاً لأنه شهد على الجريمة وتلوث، وأيّ هجوم أمنيّ مخطط ذاك للتخلص من صوت مؤثّر في العالم والرأي العام، أيكون إسكاته وجرّه إلى التّهلكة هو الحلّ؟ مثلما حدث السفارة وتصفية ابن البلد، تلك التي حُكمُها ملكيّ وتختلفُ مع ابنها قليلاً في الرأي، كما يقال!
بالمحصلة لا يمكن للملوث بالسلطة بشكلٍ من الأشكال ألا ينوبه تبعات وضربات إعلامية وانتقادات لمسار حياته وتغيير أرائه بتلك السلطة، سواءً كان موالياً لها أو متوازناً بنقده لتصويب مسارها، وذلك رأي وليس جرّ جيوش لمحاربتها لأنها لا تتماشى مع أفكاره، أجل إنّه رأي، قول، كتاب، مقال، مقابلة… إنّها الكلمة فقط، الكلمة التي ترعب الطّغاة وتصنع التاريخ، وليس البندقية وأخواتها الأسلحة المُصَمّمّة للقضاء على البشريّة بالتّزوير والتّبرير المُستمر لقتل من نختلف معهم في الرأي أو تبرير القتل بكل أشكاله.
عذراً التعليقات مغلقة