جميلة وعفوية وطاهرة كانت البداية، خصوصاً مع الحالة التصاعدية التي تميزت بها وحالة الشعور الواحد والحلم الواحد الذي انتقل كالسراب في طول البلاد وعرضها.
الفتية متشابهون، والرايات متشابهة، كما الأناشيد والأهازيج والشغف، كما الشوارع والأزقة، كما الرجال والنساء والصبية.. كان حلماً جبل البلاد على نفس القلب ونفس الروح ونفس الأمل. الفتيان والصبية وقلة من الرجال، قرروا أن أوان التغيير قد أزف، وآن للباطل أن يزهق، وآن للحق أن يمتطي صهوة المجد في موكب مخملي على ضفاف الحضارة والسؤدد.
لم تكن للجاه أو المال أو لمآرب أخرى، كانت لله وللحق وللعدالة.. هكذا قال الشجعان، وقرروا أن يريقوا دماءهم لترتوي زهور الحرية، وما ينبغي لأزهار الحرية أن تذبل، ولا لأريجها أن يأفل وقد ارتوت من مهج ودماء ودموع أمهات ذرفت على عجل، وما لبثت سيدات المجد أن كفكفت دموعها، ورشت في مآقيها بعضاً من تراب، فالدماء لن تذهب سدى، والوعد نصر أو عقد أبدي على ضفاف كوثر الله، وربوع فردوسه.
ثم والحال على هذا الطهر والنقاء والحلم الوديع، تداعت عليهم الكثير من أجهزة الأبالسة، فقرروا أنه لا زمان يسمح ولا حتى مكان، ولا وقت على الأرض للحلم أو للشعر أو حتى للحق، ولا تغيير لثوابت الشر وتنقلات الولاة والحكام وديوك المصاطب. فاجتمعوا على عجل وكتبوا خطة حمراء بحبر سري ووزعوا المهام والأعمال وصيحات العسكر ومسالك المخبرين، فعاثوا في الحلم فساداً وفي الأمل إفساداً وفي وجدان الجموع الغفيرة ويلات وغصات.
وبعد عمل دؤوب ومضنٍ كلفهم الكثير من مال ومن وقت ومن دهاء، استكشفوا برنامجاً ذكياً وماكراً للولوج إلى عقول الحالمين وغرائزهم الدفينة، فحرفوا الفتية والرجال، فأوغلوا الحقد وأججوا التناقض وأكثروا المناهج والمقاربات، وخلطوا الوسائل مع الغايات، واخترعوا المسميات والبرامج والرايات، فضاقت النفوس بالنفوس، والمناهج بالمناهج، واختلط الزيت بالماء، والحابل بالنابل.
فتصارع الفتية، وتربصوا في الخنادق الضيقة، وبنوا متاريس للفساد والرذيلة، فتاهت المجاميع، وذبلت زهور الحرية وتربص الكبار بالصغار والقوي بالضعيف والخارج بالداخل والداخل بالخارج، فتعثر الربيع لانحباس المطر.
الصمت والضياع والندم سيد في وقت التائهين، وثمة صخب وضجيج عن الحال وعن المآل وعن سؤال صعب وجارح، ترى هل فات الأوان..؟، ترى هل حصاننا كبا أم نحن كبونا..؟، ترى هل ثمة أمل بولادة فتية أطهار كأولئك الذين بدأوها أول مرة؟.. فرحم الغضب والصدمة كثيراً ما يلد الأقوياء والشجعان.
Sorry Comments are closed