يوزّع بشار الأسد هداياه الاستثمارية الجزيلة بكرم سخي على أصدقائه هنا وهناك، فلروسيا يعطي استثمار بناء الشقق والفنادق الفخمة، ويمنح إيران مشاريع البنية التحتية، شبكات الكهرباء والطرق والجسور، أما الصين فلها حصة بناء (وصيانة) المرافق الكبرى من مطارات ومدن رياضية.
ولا ينسى الأسد إغراء لبنان والأردن بتجارة مزدهرة، وليالي فرح عامرة ينسى فيها اللبنانيون والأردنيون غلاء أسعار بيروت وعمّان، ويهربون من أجوائهما الرتيبة إلى حضن دمشق الحالم، والقادر في الوقت نفسه، على الاحتفال بحب الحياة والوفاء للمقاومة وشعارات تحرير فلسطين، وذلك في مطاعم دمشق القديمة، حيث الأصالة والتاريخ وأمجاد بني أمية ومراقد آل البيت.
لكن من أين سيموّل الأسد هذا النهوض العمراني الذي تتجاوز تكاليفة مبلغ الأربعمئة مليار دولار، ومن أين له تحقيق هذا الزخم الترفيهي لأصدقاء أجهزته المخابراتية، في بيروت وعمّان، في بلدٍ يصنّف أكثر من ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر، وأكثر من ثمانين بالمئة من عائلاته، الموالية والمعارضة، فقدت أبناءها في الحرب، أو أصيب أحد أفرادها بإعاقة دائمة؟.
لا يوجد أدنى شك أن الأسد محظوظ، إلى درجةٍ يمكن وصفه بأكبر المحظوظين في هذا الكون، فهو يجد دائماً من يصدّقه، فقد صدّقوه حين وصف الحراك بأنه مؤامرة خارجية من دون أن يكلفوه باستحضار دليلٍ يثبت صحة الاتهام، في حين أرهقوا الشعب السوري بالأسئلة عن سبب ثورتهم، ما دامت الجامعات بالمجان، وما دامت سورية البلد الوحيد غير المدين في المنطقة، من دون أن ينتبهوا إلى أن العائلة السورية تنفق على أولادها في الخدمة العسكرية، سنتين ونصف السنة، ما تنفقه أي عائلة في المنطقة على تدريس أبنائها في الجامعات الخاصة، بالطبع من دون احتساب السنوات التي تضيع من عمر الشباب، في جيشٍ غرضه تدجين الشباب، وإخضاعهم لسلطة الأسد، ومن دون الانتباه إلى حقيقة أن عدم وجود ديْن خارجي على سورية أمر لا ينعكس على حياة الناس، وليست له تأثيرات حقيقية على معاشهم، بدليل أن مئات آلاف العمال السوريين كانوا يبيعون أنفسهم في أسواق العمل الرخيصة في الأردن ولبنان.
أكثر من ذلك، صدّقته شريحة واسعة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بأنه سيحرّر لهم فلسطينهم، مع أن الأب والابن حكما سورية حوالي نصف قرن، من دون أن يطلقا طلقة واحدة على الجولان، وبشهادة الإسرائيلين أنفسهم الذين أبدوا سعادتهم لعودة الأسد للسيطرة على جنوب سورية، إلى درجة أن إحدى شركات السياحة الإسرائيلية سيّرت مركباتٍ وضعت عليها ميكروفونات تنادي في شوارع تل أبيب “أيها السائحون، عودوا إلى الإستجمام في الجولان، فالأسد انتصر”. وكان إسحق رابين، في آخر لقاء معه على حاجز إيريز، لخص هذه الحقيقة مؤنباً ياسر عرفات “لو كنت أعرف أنك لن تلتزم ما اتفقنا عليه، لما وقعت معك اتفاق أوسلو، حافظ الأسد أفضل منك، يلتزم حرفياً بكل التفاهمات بيننا”، علماً أن أجهزة الأسد الإعلامية والمخابراتية كانت إذا أرادت وصف أحد بالعمالة والخيانة تشتمه بـأنه عرفاتي.
ولكن، لن يكون في وسع هذا الأسد المحظوظ، مع تلك الفئات من دون عناء، تسويق أوهامه تلك بالسهولة نفسها، فإذا وجد كثيرون في المنطقة يشترون تلك الأوهام، وهي ما زالت مخططات وخرائط في الأذهان، وليست على الورق، فالمؤكّد أنه لن يجد من يدفع أي مبلغ لوضع ركائز وقواعد لمشاريعه المكلفة، إلا في حال قام أعضاء مليشيات التعفيش وشبيحة الأردن ولبنان وفلسطين بعمل جمعيةٍ، يقبضها بشار أولاً، لإطلاق مشاريعه الإعمارية باهظة التكلفة، أو يقوم تجار عمان وبغداد، الذين يطمحون بربح وافر من عوائد استيراد البضائع الرخيصة من مصانع هرب عمالها إلى الخارج، وصدئت خطوط إنتاجها، ولا تتوفر لديها مواد خام لإنتاج البضائع، بتمويل مشاريع البنية التحتية السورية، ليصبح لافتتاح معبر نصيب معنى حقيقي؟
يبيع بشار الأسد الوهم، وهو يتكئ على وسادة مريحة في قصر الشعب، وإذا سأله مستشاروه، إن كانت لديهم الجرأة على فعل ذلك، عن مصدر هذه الأموال التي ستأتي إليه لتمويل هذه المشاريع، سيجيبهم، بثقة وابتسامة ماكرة: سندفّع الخليجيين والأوروبيين والاميركيين ثمن ذلك، وما عليكم سوى إعداد قوائم بكل حجر تهدّم، وكل حفرة على طريق قرية نائية في سورية، ولن نسمح لشركاتهم بالاستفادة من عوائد الإعمار هذه التي ستموّل حكوماتهم مشاريعها.. لن يتسنّى للمستشارين سؤاله عن حل لغز هذه المعادلة، لأن شاشة هاتفه المحمول ستنبّهه إلى أن صديقه، رجل الأعمال اللبناني، يريد أن يطمئن عن موعد انطلاق المشاريع الطموحة، حينها سيشير بإصبعه للمستشارين، الذين ما زالوا يشبكون أيديهم على بطونهم، أن ينصرفوا ويدعوه وحيداً، وأخر كلمة سيسمعونها وهم يغلقون الباب خلفهم… أهلا أهلا أبو فلان.
لا يشكل حجم التكاليف الكبيرة أدنى مشكلة لبشار الأسد، ولا يعنيه كيف ستتدبّر دول الخليج وأوروبا تأمين هذه المبالغ الفلكية، في وقت تضطر هذه البلدان للاستدانة من القطاع الخاص والبنك الدولي لدعم ميزانياتها السنوية، ويتظاهر كل يوم آلاف العاطلين في شوارع مدنها، مطالبين بأي فرص عمل. ليست مشكلته، ما دام يضع في جيبه بطاقةً اسمها فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، اللذان سيتحوّل تراب سورية بأيديهما إلى ذهب، وبمجرد إشارة من أصابعهما ستتقاطر دول العالم للوقوف في الطابور لتقديم الأموال لمشاريع الأسد.
عذراً التعليقات مغلقة