أغلب الناس يحسون بأنهم جد مشغولين، ويستمر معهم هذا الشعور طول الوقت، لدرجة أنهم يلغون كثيرا من المواعيد، ويغيرون برمجة جداول أعمالِهم والتزاماتِهم لأنهم مشغولين كما يعتقدون، ولكن إذا أمعنا فيما يقومون به نجدهم حقيقة لا يفعلون شيئا. وكل ما في الأمر هو أن شعور الانشغال مستحوذ عليهم، إنهم غارقون في الشعور بالانشغال..
يبحث هذا الشعورَ الدكتور “أوليفر بوركيمان” الضيف الدائم على موجات إذاعة “بي بي سي راديو 4”.. حيث يؤكد أن كثيرا من السلوكيات التي فرضها نمط العيش المتسارع والمعولم والرأسمالي. قد أثر على شعورنا بشكل لافت. فأصبح الناس يعيشون الكثير من الأوهام غير الحقيقية، ومنها وهم الانشغال. ينعكس هذا الوهم سرعة الحركة، وسرعة الأكل، وسرعة التصرف وردة الفعل المنفعلة. وهذه نتائج طبيعية لضغط الحياة التي تولدت عن ضغط العمل، وضغط الوقت، وضغط الأسرة، وضغط المجتمع. مما يولد شعورا دائما بالانشغال والانهماك.
وهو شعور غير حقيقي. ولكن أعراضه وتبعاتُه حقيقية. فكثير من هؤلاء لا يخرجون مع أصدقائهم، ولا يجلسون الوقت الكافي مع عائلاتهم وأسرهم، ولا يمنحون أبناءهم الوقت الكافي للعب معهم ورعاتهم.
في دراسة أجريت سنة 2014، حول العزلة التي يعيشها الناس في هذه الألفية، كانت أغلب الإجابات تصب في خانة ضيق الوقت وكثر المشاغل. والغريب في الأمر أن هناك إحصائية أخرى تم إجراؤها كشفت عن أن ساعات العمل في أوروبا وأمريكا الشمالية، هي نفسُها طيلة العقود الأخيرة، ولم تشهد زيادة تُذكر.
المسألة وما فيها، هي تأثير نفسي يُعطي هذا الشعور، بسبب ضغط الحياة، أما الحقيقة فأمر آخر، فالآباء والأمهات في الحقيقة يقضون وقتا أطول مع أبنائهم، عكس الأجيال الماضية. الذين كانوا يقضون وقتا أطول في العمال سواء في الحقول أو المزارع أو المعامل أو في الرعي أو جلب المياه. إلا أن الوقت الذي نقضيه في العمل يبقى كما هو لم يتغير. وبالتالي فالناس الذين يشتكون بدوام انشغالهم وكثرة أعمالِهم ليسوا كذلك.
ويبقى السؤال هو : لماذا يشعر الناس بهذا الشعور؟
في حقيقة الأمر ، ينتج هذا الشعور بسبب تغير نمط العيش الذي تغيَّر معه نمط الكسب. فالربح الذي كان قديما يأتي ببيع المحصول مثلا، ويُعّدُ بالأشهر ، نظرا للوقت الذي يتطلبه، كما أن الصناعات كذلك كانت تخضع لنفس المنطق بحكم محدودية الموارد والوقت الذي يتطلبه الشحن والتصدير أو الاستيراد. كل هذا لم يعد محط اعتبار الآن، فأصبح الانتاج والتصنيع والربح اليوم يُعدُّ بالساعات نظرا لتغير نمط الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي، فقيمة الساعة عند كثير من العمال والموظفين باتت تساوي المال. لذلك أصبح الشعور بضغط الوقت وبالانشغال الدائم حالة نفسية ملازمة لكثير من الناس بسبب قيمة الوقت المادية.
صحيح أنه ظهرت أمور أخرى غير ذات أهمية كبيرة، أخذت من وقتنا الكثير، وجعلتنا نعيش حياة معقدة ووهمية إلى أبعد الحدود. فمثلا يأخذ منا الهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي وقتا كبيرا وثمينا، ونحسن أننا مشغولون فعلا دون أن نفعل شيئا ذا قيمة غير تصفح هذه المواقع أو التكلم لساعات في مواضيع تافهة ومتكررة عبر الهاتف. طبعا هذه الطاقة التي تستنزفها منا هذه الأجهزة، ستكون على حساب أعمال ومهام أخرى ضرورية جدا، كالقراءة مثلا وتعليم الأطفال، وأخذ قسط كاف من الراحة. والأكل أيضا.
ورغم كل هذا، فإننا نظل نراقب الساعة ونعد مرورَ الساعات، ونحسب بأن الوقت يمر وأننا لم ننجز كلَّ شيء، فيما نحن أصلا لا نفعل أي شيئا. وهذه العينة من الناس (وهم كثيرون جدا). يفشلون في تنظيم حياتِهم بسبب فشلهم في تنظيم أوقاتِهم، ويُلقون باللائمة على ضيق الوقت، في حين أن الـ24 ساعة التي يستغلها الناجح، هي نفسها الـ24 ساعة التي يضيِّعُها الفاشل.
يصف كل من العالم الاقتصادي سيندهيل مولايناثان، وعالم السلوك إلدار شافير؛ هذه المشكلة بما يعرف باسم “عرض النطاق الترددي المعرفي” والذي يعني الشعور بالندرة سواء في الوقت أو المال، وضعف القدرة الذهنية على اتخاذ القرارات المناسبة حيال هذا الأمر.
فالذين يشعرون بضغط الوقت، يفشلون بنسبة 99% في وضع برنامج لاستثمار وقتهم فيما يُفيد، حيث تجد أن كل المهام التي تمت برمجتها في جدول أعمالِهم اليومية هي أعمال غير ذات نفع، فيما يؤجلون الأعمال المهمة والمُلحة والعاجلة.
لقد تغير نمط الحياة البشرية في العقود الأخيرة بشكل كبير جدا، واختلت كثير من المفاهيم والمسلمات السائدة التي طبعة نمط العيش في القرون الماضية، حيت كان الفراغ والراحة رمزا للسعادة والرفعة والسمو الاجتماعي. حيث كان الذي لا يُزاول عملا يُنظر إليه على أنه ثري مكتف بذاته غني عن أجرة العمر. أما اليوم فالوضع مختلف، فقد أصبح الذي يعمل ساعات طويلة هو النموذج وهو المحظوظ. ويكفي أن تسأل شخصا _هل أنت مشغول؟ ليجيبك بكل فخر نعم أنا مشغول جدا، لأن هذه الإجابة تعني أن هذا الشخص مهم جدا.
لذلك تلعب هذه الأنماط المتطورة عبر العصور دورا هامة في تكوين الحالة النفسية والسلوكية والشعورية عند الناس.
لقد أصبح معيار الوقت عندنا يُقاس بشكل مختلف جدا، بل وبطريقة غير معقولة، فلأن الوقت مهم جدا، يعتقد كثير من الناس أن العمل الذي يستغرق وقتا أطول هو العمل الأفضل والأروع، فبعض الأعمال التي تتطلب جهدا قليلا جدا، يتعمد كثير من الناس إنجازَها في أوقات طويلة. حتى يكتسب هذا العمل قيمتَه، ولأن الوقت اليوم أصبحا يقاس بالمال، فكثير من الأعمال والخدمات خصوصا في مجال الصيانة والتي تستغرق وقتا قليلا جد، يتعمد المستخدمون إطالته لساعات حتى يكون المقابل المادي مضاعفا.
في نهاية هذا المقال، يتوجب على البشرية الاستيقاظ من هذا الوهم الذي تعيشُه، وتقدير الأمور تقديرا واقعيا وصحيحا. خصوصا الوقت، وتغيير فهمنا الخاطئ له.
Sorry Comments are closed