ارحموا عزيز قوم رَفَضَ الذُّل

أمجد عطري10 أغسطس 2018آخر تحديث :

أمجد عطري – حرية برس

في جميع فئات المثقفين السوريين الذين انضموا للحراك الشعبي هناك من ركبوا الثورة أو تورطوا بالانتماء إليها، باستثناء فناني الدراما أو الممثلين (الذين صرحوا عن دعم ذلك الحراك، وهم قلة معروفون). هؤلاء لم يسعوا بذلك لمكاسب أو مناصب، إنما سعوا لإرضاء ضمائرهم وإكمال رسالتهم. ولم يجنِ من تابع منهم بالإصرار على موقفه إلا التخوين والطرد من بلده. ومحبة الناس لهم كانت أمراً مكتسباً سابقاً إلا أنها ارتقت بعد إعلان مواقفهم والالتزام بها إلى درجات من التوقير والإجلال لدى بعض الناس، وهوت إلى الاستهتار بهم لدى آخرين (المقصود بالبعض والآخرين هنا هم غالباً من الثوريين أو الناس الموالين للثورة)، غير فقدان جزء من جمهورهم السابق. هذه المحبة لم تُعِنهم مادياً ومهنياً فكانوا من بين أكثر المتضررين على هذين الصعيدين خلال السنوات الماضية. ولم يتراجعوا عن مواقفهم. ألا يستحقون الإكبار؟

جسدوا مثالاً سامياً عن مدنية الحراك وشموليته، وما زالوا بمواقفهم يدحضون إدعاء طائفية الثورة أو عصبيتها، فمنهم من ينحدر من عائلة مسيحية أو علوية أو سنية أو كردية… لم يعطوا بالاً لهذا الانتماء، كان انتماؤهم إلى بلدهم سوريا وشعبها هو الغالب على فكرهم وتوجههم. ولم تستطع أفواه النظام السوري الحاكم – كما فعلت مع غيرهم – ادعاء أنهم مموَّلون أو محرَّضون من جهات معادية له لأن نفي هذا الكلام واضح للعيان.

قلت إنهم قلة معروفون ولا أريد ذكر أسماء الأحياء منهم حتى لا يعتبر الكلام تسويقياً لأحد، فلست على معرفة تامة بأحوالهم جميعاً في الخارج، لكن الأمر معروف أن أغلبهم يعيشون في ضيق وبالكاد يتدبرون أمورهم المعيشية، حيث يصعب عليهم أو ربما يستحيل ممارسة مهنتهم في دول الشتات؛ لسببين أساسيين: الأول أنهم محسوبون على المعارضة، وهذا العائق يقف بالدرجة الأولى قبالة عملهم في الدول العربية التي لا تلتزم الحياد فقط وإنما تناصر النظام السوري القائم بالسر أو العلن. والثاني هو عائق اللغة، الذي يعاني منه المقيمون منهم في دول غير عربية.

أتوقف هنا بإيجاز مع فنان وفنانة وقفا مع مطالب الشعب منذ بدأ الاحتجاجات حتى اضطرا إلى الخروج من سوريا، التزاماً بموقفهم، ثم الوفاة خارجها لاحقاً:

عامر السبيعي (1958 – 2015) (الملقب بـ شيخ الشباب)

نجل الفنان رفيق سبيعي (الملقب بـ فنان الشعب).

انضم إلى صف الشعب المطالب بالإصلاحات في بداية الثورة، وفي جلساته مع الشباب في الغوطة الشرقية، حيث كان بيته في مدينة حرستا إحدى مدن الغوطة الشرقية، كان يغني بينهم. وقد حرص حينها من قاموا ببعض التسجيلات له على عدم نشرها حرصاً على سلامته. وكانت تلك الأغاني من كلماته وألحانه وذات توجه إنساني تودُّدي مثل “دبحوا الولد” و”صار بدها حل”.

لكن “أبو فهمي” الذي يخاطبه في أغنية “صار بدها حل” لم يتفهم الرسالة وواصل في غيِّه وبشطه. فغنى له “شخاخ وقاعد بالنص”.

واضطر عامر فيما بعد إلى الخروج من سوريا إلى مصر حيث أشهر موقفه وأكمل التعبير عن دوره ورسالته بطريقة مباشرة وواصل بغناء الأغنيات الحماسية الشعبية والسخرية السياسية في جلسات خاصة.

وقد تعرض، في دمشق، إلى اختطاف خاطئ من قبل “جبهة النصرة” التي ظنته موالياً للنظام السوري. وهو يعتبر أن هذا الاختطاف كان بمثابة إشارة من الله له أنه يجب عليه الإعلان عن موقفه والالتحاق بالثورة وأنه كان السبب في اتخاذ قرار الانشقاق، كما يسميه، حيث قال في لقاء أجرته معه صحيفة “زمان الوصل” سوريةَ الصوت، في الثاني من تموز (يوليو) من العام 2013، بعد خروجه من سوريا: “أنا بدأت ثورتي عندما قدمت استقالتي من المسرح العسكري التابع للإدارة السياسية فرع الإعلام في سنة 1984، هنا كان خياري بالابتعاد عن الدولة وكل ما يتعلق بها وبقيت إلى أن اشتعلت هذه الثورة المباركة فأيدتها ولكن من خلف الستار حرصاً من بطش النظام، فأنا أعتبر نفسي منشقاً عن هذه الدولة منذ ثلاثين سنة تقريباً وعندما خرجت من البلد منذ ثلاثة أشهر فقط أعلنت انشقاقي.”

وفي سؤاله عن ردة فعل والده وشقيقه “سيف الدين” تجاهه قال لـ “زمان الوصل”: “لقد حاولتُ أن أقنع أبي ولكن “ما كل ما يتمنى المرء يدركه” لم أستطع، وأخي حر فيما يعتنق من مبادىء، كانت ردة فعلهم أنهم لفظوني من حياتهم واعتبروني مخطئاً في موقفي.”

في مصر بقي بلا عمل وواصل غناءه في جلسات خاصة، حيث قال في لقاء أجرته معه قناة “أورينت”: سأواصل الغناء بحرية ومستعد أن أخرج وأغني في الطرقات العامة. إلى أن توفي في أحد مشافي مدينة السادس من أكتوبر، في يوم الإثنين التاسع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2015.

لعل عامر أجدر من أبيه بأن يحمل لقب “فنان الشعب”، وهو “شيخ الشباب” أيضاً.

مي سكاف (1969 – 2018)

انضمت إلى صفوف الاحتجاجات الشعبية في سوريا منذ انطلاقتها في العام 2011، واعتُقلت في مظاهرة الفنانين السوريين في دمشق في الثالث من تموز (يوليو) 2011 إلى جانب عدد من المشاركين في المظاهرة. وبعد إطلاق سراحها لم تتراجع عن موقفها، بل إن الإهانات التي تعرضت لها في الاعتقال زادتها إصراراً بعد خروجها منه فواصلت تصريحاتها المناهضة للنظام الحاكم. متمسكة بالبقاء في دمشق، حيث تقول في لقاء أجرته معها مجلة “دمشق” اللندنية، في العدد المزدوج 2/3، ربيع 2013: ” أريد أن أستمر في سماع هذا القصف المدفعي مع الباقين هنا في دمشق. بالنسبة للذين يعملون على الأرض لا أعرف أي شيء عن عملهم… لكنني أشعر أنني واحدة منهم. وعندي إحساس جميل أنني لو في لحظة من اللحظات استشهدت ستكون تلك اللحظة الأسعد في حياتي. مت ولم أخرج مكرهة، وأنني لم أنصاع.”

لكنها خرجت مكرهة فيما بعد، عندما هُددت بالاعتقال مرة أخرى، فاستطاعت الهرب مع ابنها إلى الأردن حيث قضت قرابة سنتين لم يستطع ابنها خلالهما متابعة تعليمه. وسُدت في وجهها أبواب الدخول إلى دول عربية أخرى، فطلبت اللجوء مع ابنها إلى فرنسا وقالت حينها إنها لولا ابنها لن تخرج من الأردن إلا إلى دمشق. رغم أنها في الأردن عانت ما عانته من عدم توافر مورد رزق لها تعتاش منه: عمل ابنها فترة كنادل في أحد مقاهي عمّان، وكان عمره 16 عاماً.

خلال إقامتها في الأردن، أدت بعض الأدوار العابرة في أعمال لقناة معارضة وشاركت بمسلسل أردني وقالت حينها إنها لا تحب مزاحمة الممثلين الأردنيين في عملهم ولكنها بحاجة للعمل لتعيش. وكان سابقاً النظام السوري الحاكم قد حاربها في عملها منذ أعلنت عن وقوفها مع الثورة في بدايتها، كما حارب زملاءها أصحاب الموقف نفسه.

في فرنسا، عاشت قرابة ثلاث سنوات كأي لاجىء، ليس لها مصدر دخل سوى المساعدات المالية التي كانت تتلقاها من صندوق المساعدة العائلية، وكرست وقتها لمتابعة أخبار سوريا والمشاركة بالنشاطات والتجمعات الثورية. ولم تتح لها فرص عمل هناك. سوى دور “مادلين” الذي جسدته في مسلسل “أمل” في العام 2017، وهو آخر أعمالها.

وأثناء إقامتها في فرنسا، توفيت أختها وبعدها أمها في دمشق، وبعد وفاة أمها بشهور توفيت مي فجأة في بيتها في ضواحي باريس، إثر نزيف دماغي حاد، في ليل الأحد الثاني والعشرين من تموز (يوليو) من العام 2018.

هذه لمحة موجزة جداً عن ما مرَّ به هذان الفنانان خلال السنوات الأخيرة من حياتيهما. وقس على ذلك في ظروف زملائهم الفنانين المنفيين المعلِنين عن مناهضتهم للنظام السوري الحاكم.

هم أشخاص آمنوا برسالة الفن في مناصرة قضايا الناس العادلة والمطالبة بحقوقهم ونصرة المظلومين فكسروا الحاجز القائم بين المشهور والجمهور، والتزموا بتلك الرسالة، ولم يُثنهم عن ذلك شيء. وكان بإمكانهم أن يلتزموا الصمت، كما فعل أغلب زملائهم الباقين في سوريا، ويمارسوا حياتهم وعملهم بشكل طبيعي.

يا أبناء سوريا المنكوبين، هؤلاء رأوا أن عزَّتهم تكون بالوقوف إلى جانبكم والذود عن حقوقكم، أولى بكم أن تعتزّوا بهم وتحسنوا ذكر الراحلين منهم، وهذا أقل ما يمكن أن تقدموه تجاههم؛ هو أشبه بثناء على التزامهم بأدائهم واجبهم تجاهكم وتجاه بلدهم. ولست أدعو هنا إلى خلق أيقونات وألقاب تخليدية، بل هي دعوة لإكرامهم في حياتهم قبل مماتهم.

 

هوامش:

1- لقاء صحيفة “زمان الوصل” مع الفنان الراحل عامر السبيعي:

https://www.zamanalwsl.net/news/article/39427/

2- أغنية “دبحوا الولد”:

https://www.youtube.com/watch?v=bt6RxNx7Ym8

3- أغنية “صار بدها حل”:

https://www.youtube.com/watch?v=duFCl9CiY1A

4- أغنية “شخاخ وقاعد بالنص”:

https://www.youtube.com/watch?v=HmQTLTC35vs

5- لقاء الفنان عامر السبيعي في قناة أورينت:

https://www.youtube.com/watch?v=if9OXnycxP0

6- اللقاء الكامل للفنانة مي سكاف مع مجلة دمشق:

http://ar.theasian.asia/archives/33443

7- لقاء الفنانة مي سكاف مع موقع “حنطة” في 16/5/2013:

http://www.hentah.com/2013/05/16/332/

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل