ربما يمكن تسميتها بالمجازفة الخطرة التي كنا نقف بها في وجه العالم، أن تكون ابناً لفكرة نبيلة في مواجهة طاغية كبير، وتبقى مشدوهاً بسحرها الأول معللاً ذلك بنقصٍ ما يمكنك الارتكان عليه في هذا العالم. أعترف أننا ولوقت طويل جداً بقينا أبناء ثورتنا المثالية، كل من كان يستخدم الحجارة ضدها كنا نجابهه بالرفض والإنكار، حتى عندما شاهدنا الكثير من أخطائها اعترفنا بها بما يكفي لنقول للعالم أننا نريدها مثلما ابتدأناها في قلوبنا.. طاهرة كاملة مثالية، أو أفلاطونية، كما يتهكم البعض.
بعد كل الذي يحدث في سوريا، بقيت كل محاولاتنا للهرب والنأي عن ذاك العبث الذي تُحدِثه اعتداءات الأسد في هذا العام بالذات، رفضاً لتقبل الأمر، لأن الاعتياد على الهزيمة يجعل التفكير في دحرها ولو بعد مرور الزمن مستحيلاً.
عندما تمت جريمة تهجير أهالي الغوطة ومن بعدها الجنوب الدمشقي كان هذا الأمر كفيلاً بجعلي لا أشعر بشيء يذكر، مخدرة أمام عظمة ما يحدث في أن تصبح البلاد التي ألِفتها غريبة عنا، وفارغة منا نحن، نحن بالذات. سبقتها بذلك الزبداني، مضايا، المعضمية، داريا، ولكن كانت الغوطة والجنوب بصمودِهما شماعة البقاء في تلك الأرض، لأجلي على الأقل، وأنا البخيلة بحضوري فيهما أو حتى بالحديث عنهما أحياناً.
اليوم درعا، وقبلها الكثير من المدن التي كانت تحولنا إلى كائنات لا تقوى على رفض الواقع أكثر من ذلك، ولا تسمح لنا باليأس أكثر مما يئسنا، كما يقول درويش، تتحول عواطفنا الكثيرة التي ربما كانت هي زادنا في الانطلاق بالثورة إلى عبء عظيم لا نكبَحه ونحن نتهاوى تحت مقصلة العالم الكبير الذي لم يشأ حتى اللحظة أن يكف عن تمثيل دور المنفصم بين عدالته وحقيقة ظلمه.
يتزامن هذا الخراب في عام البؤس هذا مع ملف المعتقلين الذي بدأ التصريح باستشهادهم تحت التعذيب دون أي خوف يذكر، لدرجة أن السوريين تحولوا إلى طالبي موت وهم يقلبون كل تلك الأسماء بحثاً، ليستريحوا أمام موت أحبتهم بعد سنين الانتظار الطويلة تلك، ترتفع الأرقام لأعداد كثيرة من معتقلي الثورة في مناطق عدة، والأعداد الكثيرة توحي بأن القصاص الذي يقام على الأرض يحدث مثله تحتها، وأن الانتظار المحموم الذي تقوم به أغلب العائلات اليوم في الترقب لعودة أحبتها ولو بعد كل تلك السنين بدأ يجف ماؤه ويتحول إلى مستنقع من خيبات متلاحقة لم تعد لنا القوة على رتقها.
لست أدري كيف يمكننا الاستمرار هنا، أو كيف نستطيع بحمى إيماننا أن ننام آمنين في ظل هذا العالم، الذي يريد أن يقول لنا دائماً قتلنا منكم من قتلنا وبقيتكم الذين حاولوا الإمساك بالحلم لأجل الراحلين والمعتقلين ها نحن ذا نهديهم الموت يأساً فلا أنتم ستعيدون شهداءكم، ولن تلتقوا بعد بمعتقليكم، وإن نفيتم فتلك المنافي لن تكون لكم دياراً مهما طال الزمن.
ربما يريدنا العالم أن ننسى، أو لربما يثبت الأسد لنا حقيقة بقائه وعدمنا الدائم والطويل، ويقنعنا بأن النهاية محكومة بسطوة القوة الأخيرة، لكني هنا مؤمنة حتى آخر يوم لي في هذه الحياة أن الثورة لن تصير ذاكرة ميتة كما شاؤوا لها.
حق الذين رحلوا من أجل إيماننا المطلق أن لا يصيروا ذكرى دون اسم، ولن يذهب موتهم سدى كما يحلم أتباع الأسد بخلاصهم، لن أحلم بعد الآن كي أغير العالم على بقعة جغرافية صغيرة تسمى مجازاً سوريا، وأنا أعلم أن شعباً لم يستطع أن يكون يداً واحدة لألف مسمى وسبب لن يتمكن بالمطلق من النجاة بأرضه وأحبته وحيداً، لكني سأبقى طفلة العالم الساخطة التي ستدق رأسه بالنق والعويل كل يوم وهي تتذكر أسماء الشهداء وتحصي المجازر وتذّكر هذا العالم حتى الأبد كم كان دنيئاً معنا، و أنه لن ينام هانئاً ما حيينا مع كل أولئك القتلى حتى نفنى أو يفنى الأسد وكل من والاه.
Sorry Comments are closed