كلما خاطرني ذكر حوران أحار !.. “نبتدي منين الحكاية ؟!”

رانيا محمود12 يوليو 2018آخر تحديث :
رانيا محمود
Reuters

حوران التي ارتبطت بأذهان السوريين بـ (الراحة الدرعاوية والمليحي)، والمفارقة اللطيفة بأن عدداً كبيراً من السوريين أدوا خدمتهم العسكرية في حوران، بالإضافة إلى الرمزية التي حملتها في الثورة السورية، جميع ذلك تبخر في سماء الخيانات..

بدأت القصة منذ الاستعراضات العسكرية المهيبة التي شهدناها في حوران تزامناً مع تصريحات النظام والروس باقتحام الجنوب السوري .. لم تتقاذفنا أهوال الرعب من مصير مشابه لمن سبقنا، فقد عقدنا الأمل على صمودنا مدنيين وعسكريين .. كنا ملتفين حول جيشنا الحر الذي تعهد بحمايتنا من النظام .. وهنا يجب الفصل والتمييز بين عناصر الجيش الحر من أبناء حوران الشرفاء، وبين قادته الذين باعوا انتماءهم لاحقاً ..

بدأ الاقتحام بالفعل .. كانت المعنويات أكبر من أن يهزمها طيران !.. لم تهزمنا غاراتهم ولكن هزمنا الإعلام الكاذب ! حيث سقطت عدة مناطق في ريف درعا إعلامياً قبل سقوطها عسكرياً حتى !.. المنطقة الفلانية عدو، المنطقة الفلانية عادت صديق !.. ذلك ما أثار الذعر حيناً ونشوة النصر حيناً آخر !.. وكانت هذه أفدح أخطائنا.. التقصير الاعلامي، حيث كانت الأخبار المغرضة تسرق حيزاً من الحقيقة في ظل غياب تصريحات القادة ..

على ضوء الحرب الاعلامية الضخمة التي قام بها النظام والتي ساعد بانتشارها ناشطو الثورة بأن تناقلوها في غرف الواتس والتغرام كالنار في الهشيم، والعنصر الأهم هو التكتيم الإعلامي من قبل قادات الجيش الحر .. قتلتنا الأخبار الكاذبه، وكان المشهد في حوران قيامة !

الآلاف هائمون على وجوههم لا يعرفون إلى الأمان سبيلا، يمشون باتجاهات متباينة، يحملون ما أمكنهم من أمتعة وأرواح .. ومعظمهم يردد “يالله وين نروح ؟!”

وجوه المسنين التي سطرت الحسرة محياها لا تنسى، يحملون في عيونهم قهراً لا يبرده دمع !.. أطفال يفترشون الطرقات مع عائلاتهم تخت وطأة الشمس الحارقة، والخوف الذي يحمله المشهد من دموع الأمهات، وحيرة الرجال، والسؤال الذي كان يتردد على الالسنة كبسملة “أين المفر ؟!”

استمرت موجة الهروب المتضارب هذه والتشرد في سهول محيطة بظروف مأساوية منها مساهمة الحشرات والحيوانات الزاخفة في قتلنا !.. كانت ساعات النهار تمر بطيئة متثاقلة، أحسبها بالدقيقة وأتوسل الله أن تمضي سريعاً، قبل أن ينال الحرّ مما تبقى فيّ من روح !

كنت أجهل تماماً أن وجود فرصة للاستحمام هي نعمة بحد ذاتها ! لم يخطر ببالي قط أن الحر ممكن أن يؤدي فعلاً إلى مشاكل صحية كالتجفاف ونقص السوائل .. كان الأطفال والمسنون هم الضحايا الأبرز في السهول، بعض الأطفال عانى من الإسهال في تلك الفترة بسبب شدة الحر، بينما استطاعت أحجار الصوان في السهول هزيمة توازن المسنين وأصابتهم بندوب ورضوض ..

كنت أستطيع سماع أنات الألم من المسنة التي كانت تقيم بجوارنا في أحد السهول، تساءلت حينها : “هل هذه الأصوات التي يتحدث المعتقلون السابقون عن ألمها ؟!”، انسان يصرخ ألماً بجوارك وليس لك أن تقدم له شيئاً سوى دموع تخفيها ..!

وكان المشهد الأكثر قبحاً هو توزيع المساعدات الأردنية على النازحين عند الشريط الحدودي، حيث لم تسمح الحكومة الأردنية بدخول هذه المساعدات دون موافقة النظام، فراح بعض المغيثين يرمون بالمساعدات وصناديق ماء للشرب للنازحين دون اجتياز الحدود ..

كان المشهد مهيناً لدرجة تثير الحنق ! وفي المقابل كان المشردون في السهول يتقاسمون حتى رغيف الخبز وأدوية الأطفال .. كنا اقوياء بتوحدنا في ظل هذا المصاب ..

ولكن على رأي المثل “فوق الموتة عصة قبر !” ، إضافة إلى التشرد والموت، جاء تقدم النظام إلى بعض القرى الرئيسية، ما يعني هرباً جديد من تقدم النظام لكن دونما وجهة ! فالنظام استطاع أن يطبق الحصار من عدة محاور، ما قادنا إلى اليأس والتسليم بقضاء الله حتى لو كان الذبح على أيدي عناصر النظام ..

كانت راجمات الصواريخ التي يستخدمها الجيش الحر ضد النظام تبعث طمأنينة في قلوبنا التي هيجها الخوف من الآتي، شعرنا للحظة بأننا الطرف الأقوى باعتبارنا موحدين على موقف واحد، وأصحاب حق !.. كانت أصوات تكبيرات المشردين في السهول أعلى من أصوات الصواريخ المنطلقة باتجاه قوات النظام، كان الأمل ضخماً وقادراً على تبديد أي مشاعر سلبية ..

إلا أن هذا التوتر والحرب النفسية كانت تنهش بنا، ولم يقدم أي من أصحاب القرار من طرفنا لتوضيح الامور، فقد كانوا منشغلين ببث العنتريات الفارغة، والتنازع على منصب في الجولة القادمة التي ستكون معبدة بدماء المدنيين ..

كانت تجري جولات المفاوضات وتنتهي دون أي تصريح سوى “ردح” متبادل في غرف الواتس أب !.. وفجأة ودون سابق إنذار نسمع بعقد اتفاق بين المعارضة والنظام، واختفاء القادة ! حتى أنهم لم يبلغو عناصرهم بمجريات الأمور !

كان الأمر يحتاج لشهادة شاهد من أهله، واستطعت الحصول على هذه الشهادة من أحد عناصر الجيش الحر، الذي كان يحاول الهروب من تقدم جيش الأسد، كان مذهولاً من كل ما يحصل، اختصر حديثه بالقول :”القادة باعونا.. أخدو نسوانهم وراحو ع الأردن .. باعونا وباعو حوران الله لايوفقهن” ..

وحتى اليوم لا أحد يعلم ما هي فحوى الاتفاق الذي توقفت المعارك بموجبه ..   وكأننا قطيع لا نملك من أمرنا سوى الامتثال لأهواء ومصالح من كنا ندعوهم بالقادات ! وفي النهاية كانت دماؤنا حبراً لهذا الاتفاق المبهم على صفحة حوران التي طواها التخاذل ..

وكما قال أحدهم دون خجل “قضي الأمر .. باي باي”، بالفعل قضي أمرنا ولنا العزاء فيما خسرنا من شهداء، وعظم الله أجرنا في بلادنا ..

درعا لم تخن الثورة، درعا تمت خيانتها كما تمت خيانة باقي المناطق من قبلها .. لكن التاريخ شاهد على كل من خان ثورتنا، وقلوبنا شاهدة على كل هذا التواطئ، وعهدنا أن نزيل هذه الشخصيات الآسنة ونعود لإحياء ثورتنا الطاهرة النقية من جديد .. حيث لا مكان فيها للدولار أو المناصب التي أعمت بصيرة البعض.

كان أحد شعاراتنا في بداية الثورة “يلي بيقتل شعبه خاين”، واليوم وجب تجديد الشعار “يلي بيسلم شعبه خاين” ..

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل