في رحلة التهجير.. أخذ ما قل حجمه وغلا ثمنه

فريق التحرير11 يوليو 2018آخر تحديث :
ثوار وأهالي حمص الشمالي يستعدون لركوب الحافلات وبدء رحلة التهجير القسري – عدسة: محمد العلي – حرية برس©

محمد العلي – حرية برس:

شهدت مدن وبلدات شمالي حمص كما غيرها من المناطق السورية الثائرة التي تعرضت لجريمة التهجير القسري، حالة من التوتر والترقب التي اجتاحت المنطقة إبان تنفيذ عملية التهجير القسري.

ويعود هذا التخبط لهول الواقعة التي تتمثل بإنتزاع الفرد من أرضه ومسقط رأسه تارة، و لشدة ضراوة الحرب النفسية التي يشنها إعلام الأسد بشكل ممنهج ضد المناطق المحاصرة، قبيل تهجيرها تارة أخرى.

وتطبيقاً للقول الشعبي الذي يحث على الإهتمام و وضع الأولوية لأشياء صغيرة الحجم لكنها ذات قيمة عالية، لم أجد أصغر حجماً من تراب مدينتي “حمص”، ولا أغلا من تلك الحبات قيمة، لأحملها معي في رحلة التهجير عن ترابها.

ليس من المبالغة نعت تلك اللحظات بخروج الروح من الجسد، بل هي توصيف الواقع بأقل العبارات التي من الممكن أن توضح للمتابع ما يتعرض له المهجر عن مدينته، فلكل شخص مدينته التي يعشقها وينتمي إليها، فكيف إن كانت تلك المدينة هي “حمص”، التي يقع في حبها من مر بها مرور المسافر وعابر السبيل.

على عتبات حمص وقفت لبرهة قبيل الصعود لحافلة التهجير وأيقنت انني بدأت الاحتضار مع سكرات النزع المؤلمة، ماذا عساي أن أفعل؟ كيف بنا التأقلم مع العيش بدون روح؟ وتساؤلات كثيرة عمدت أن تجول في خاطري، وأحدثت ما لم يحدثه القصف والحصار.

حملت نفسي على الصبر ولاشيء سواه أستطيع فعله، أقنعتها أن ما يحصل اليوم من فراق، ليس برغبة الثائر، وأن وداع الشهداء وتقبيل ثراهم والوقوف على ركام الأزقة العتيقة، أمر فُرض علينا وسيأتي بعد ذاك الوداع لقاء قريب تعود به أرواحنا، وتحلق آمال كل ثائر لا فناء له، في سماء وطن مزق سكونه أزيز الطائرات الحاقدة.

كنت حينها أحاول إجراء أحاديث مختصرة مع نفسي، منعاً للعبرات المتدفقة أن تكشف قناع المصابرة، وتنزع ثوب اللامبالاة المزيف الذي أغطي به نتائج وأهوال الفاجعة، أعزيها أنني أتممت مهمة توديع الشهداء وأمضيت يوماً كاملاً عند قبورهم، هل ودعتهم؟ نعم ودعتهم جميعاً، وتركتهم نيام يلتحفون ثرى حمص المعطر بدمائهم.

ومع اقتراب جولات المفاوضات من نهايتها، بات وداع العدية يقترب بسرعة الضوء، وكأن سنوات الحصار فيها أصبحت أياماً قلال مضت على عجل، وفُرض على أهل المدينة الثائرين، مدينة الاعتصام والملاحم وأرض الحصار وأم الشهداء وعاصمة الأحرار، تركهم لآخر معاقلهم في عاصمة ثورتهم، أو المصالحة والعيش في كنف قاتل أهلهم ومدمر بلادهم.

استرقت بعض النظرات متنقلاً على تخوم الجبهات الأربعة أحاول إشباع عيناي منها، جميلة حتى بركامها، بمعالمها العتيقة، وبمسجد خالد بن الوليد الذي بات يُرى بالعين المجردة عقب تحول الأحياء المجاورة له لـ”أطلال”، مضى على دمارها ونزوح اهلها سنوات، نتيجة حملات قوات الأسد والمليشيات الطائفية ضدها.

وبينما تتسارع عجلة التهجير وعملية إجلاء الأهالي عند بيوتهم، بات علي فعل شيء يواسي ويخفف ما آلت إليه الأمور وأصبح واقعاً، ربما ثواني تفصلني عن المغادرة، وجدت نفسي دون ما وعي أقتبس حفنة من تراب حمص، لأرى فيها ما خف حجمه علماً انه يحمل الكثير من قصص الصمود وحكايا الثبات، وربما اختلط مع كل حبة منه قطرة من دماء شهيد.

حبات من تراب حمص عاصمة الثورة السورية قبيل التهجير – عدسة: محمد العلي – حرية برس©

ومع المرور على حواجز التفتيش “الروسية”، وهذا ما يعني أن حمص أصبحت خلفنا، نائين عن أبوابها السبعة، ظننت أن مصادرة تلك الحفنة التي بجعبتي باتت قاب قوسين أو أدنى، معتبراً ان حفنة التراب هذه سلاحاً ثقيلاً بل و فتاكاً في وجه المحتل الذي يظن نفسه قد اخمد ثورة لن تعرف الهزيمة فالإحتلال الروسي المدجج بأصناف الأسلحة التي تمت تجربتها على اجساد الثوار وأهلهم، لا يعلم مدى عمق علاقة السوريين بأرضهم وثورتهم التي ارادوها لنا جحيماً فقبل بها كل ثائر شريطة أن يتنفس بحرية بعيداً عن حكم نظام الأسد.

تراب حمص، “ما قل وزنه وغلا ثمنه”، هذا ما استطعت اصطحابه معي وأكثر ما يمكنه مواساتي على طريق الهجرة قسراً عن هذا التراب المخضب بدماء شهداء عاصمة الثورة السورية طيلة السنوات الماضية، محتفظاً بتلك الحفنة حتى عودة الثورة عزيرة منتصرة بعاصمتها، فما زال هناك ثوار فكر يحملونها بقلوبهم، سيعيدونها سيرتها الأولى.

فحمص الوليد و إن كبت اليوم فهي لن تنام أبداً تلك المدينة التي أردفت سوريا والعالم بـ”المفكرين والسياسيين، والثائرين حتى الرمق الأخير”، لذلك لم يكن عبثاً تسمية المدينة التي تقع في قلب سوريا، بعاصمة الثورة الشعب السوري العظيم.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل