يمكن للفن أو الشعر خاصةً أن يمنح الحرية معنى جمالي وطبيعي وكأنها كامنة في جوهر الأشياء، وهذا ما تعكسه لوحة جميلة أو قصيدةً ما تنزف حريةً، ولكن الحقيقة غير ذلك فالحرية ليست كامنة في جوهر الأشياء وليست معطى طبيعي كما يتهيأ للبعض، إذ يمكن للإنسان أن يتحرر داخلياً ومن الممكن أيضاً أن يتم استعباده من الداخل، فهل نقول أن العبودية هي في جوهر الكائنات؟ بالطبع لا، إلا أن الإنسان يُستلب داخلياً عندما يستسلم لعبوديته ويشعر أن جميع المؤشرات لا تأخذه نحو التغيير، إذاً الانسان لا يولد حراً لا جسدياً ولا فكرياً ولا إرادياً وهذه شروط يتم اكتسابها وتطويرها في الكائن البشري حتى يصبح حراً.
كافة الخصائص الإنسانية كما يخبرنا “إريك فروم” تطورت بتطور العقل وهو الأداة الاساسية للاختيار، وقد ازداد حجم الدماغ خلال المئة ألف سنة الأولى من حياة البشر بنحو أربعة أضعاف إلى أن تشكلت القشرة الدماغية، وهذا التطور كان مرتبطاً بعدم قدرة الانسان على التكيف مع البيئة المحيطة من حوله، فالحيوانات استطاعت أن تطور ميزات جسدية تحميها من برد الشتاء ومن حرارة الصيف والتمويه من أجل حماية نفسها وغير ذلك، ولو عجزت تلك الحيوانات في مرحلة من المراحل عن التكيف مع البيئة فإن مصيرها المحتوم سيكون الانقراض، أما الانسان فقد بدأ بصناعة أدواته واكتشاف الكون من حوله واختراع نظمه الاجتماعية التي حافظت على نوعه وأوصلته لأن يكون سيداً على هذه البسيطة.
ولكنه في كل مرحلة كان يتخبط بشكل مرعب، يريد أن يجد معنىً لحياته أن يعيش لأجل ذاته راغباً في التحرر من القيود التي تربطه بمجتمعه أو بيئته الضاغطة وهذا ما جعله في فترة من الفترات يقدم الأضاحي للأنهار الغاضبة والشمس المكسوفة والقبول بأي تفسير تقدمه له السلطات الدينية والسياسية عن أسرار الكون أو الحياة الاجتماعية، لقد كان يموت آلاف المرات قبل أن يولد ولادة حقيقية ولو لمرة واحدة، وكل هذا الألم كان جزءاً من مخاضات عسيرة في طريق حريته التي يحاول أن يكتسبها، فالحرية نتاج الألم، ولا توجد حرية خارج النقص الانساني، فكلما ازداد وعي الانسان بنقصه، كلما ازداد حريةً. وكلما أصبح النقص حالة معتادة استسلم لعبوديته، ولا يمكن أن يتم تجاوز هذا النقص دون الفاعلية والارادة والاختيار العقلاني، ويستطيع أي انسان أن يقرر كل يوم بأنه سيبدأ من جديد ولكنه سيفشل إذا افتقد للفاعلية والارادة والسيطرة على عقله.
يبدو أن تعريف الحرية الذي ساقه مفكرو ما بعد الحداثة في أنها “القدرة على ممارسة جميع الرغبات دون وجود معيقات” يتعارض –أي التعريف- مع العقل الذي اختُصت به الحرية الانسانية، فلا يمكن للناس كأفراد أن ينفلتوا في رغباتهم دون أن يسيئوا إلى حرية الآخرين بل ودون أن يهدموا قيم اجتماعية قائمة بذاتها، وهذا ما نراه في حال الأسرة كمؤسسة اجتماعية مفككة في أوروبا مثلاً.
لقد جُعِل من هذا التعريف السطحي للحرية أساساً تسير عليه المجتمعات “السائلة” أو مجتمعات ما بعد الحداثة كما يخبرنا عالم الاجتماع “زيجمونت باومان”، بحيث أصبح هذا التعريف يتوافق مع مقتضيات السوق لدرجة تمييع القيم وتحويل الأفراد أنفسهم إلى سلعة، ويرى المفكر عزمي بشارة أن الليبراليين الجدد اقتنعوا بأن العلم أصبح قادراً على فهم حركة الكون من دون تدخل للقوة الإلهية، وبالتالي أصبح من الممكن التحرر من القدر والقدرية، ولكن النتائج كانت كارثية في هذا الفهم للحرية، فالإنسان الذي فك ارتباطه مع القدرية الإلهية، وارتبط مع الميكانيكية المادية التي تفسر له الكون أصبح هو نفسه جزءاً من هذه المادة التي تباع وتشترى، وبالتالي انتفت حريته جملةً وتفصيلاً.
عذراً التعليقات مغلقة