أصاب المؤرخ الفرنسي جان ـ بيير فيليو حين اعتبر أنّ رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، «يواجه صعوبة في التكيّف مع واقع أنّ القوة الإيرانية باتت على مقربة من حدود إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، نتيجة لسياسته التي اتسمت بقصر النظر والتي تمثلت في اعتبار نظام الأسد، أهون الشرّين، لا بل حتى أحد الحصون الضامنة للاستقرار». وبالفعل، في مناخات المنازلة العسكرية الراهنة بين طهران وتل أبيب على أرض سوريا، والتي تنطوي على احتمالات الانقلاب إلى حرب مفتوحة يمكن أن تشمل لبنان، وقد تنتقل إلى إيران ودولة الاحتلال؛ يسدد نتنياهو، والغالبية الساحقة من جنرالاته ومدراء أجهزته الاستخبارية، أثمان خيار مبكر فاضل بين آل الأسد وأيّ بديل آخر، فاستقرّ على «الشيطان الذي نعرف»، الذي يظلّ أكثر ضماناً من أيّ «شيطان» لا نعرف بعد.
والحال أنّ أهل هذا الخيار، وهم كثر بالطبع، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، سبق أن سددوا بعض الأثمان في صعود «داعش»، وفي امتداد توحشها إلى قلب عواصمهم؛ وها أنهم اليوم يستعدون لتسديد المزيد مع «صحوة» نتنياهو على مدى التوغل الإيراني في عمق ما تبقى من بنية عسكرية وأمنية تابعة لآل الأسد؛ وقرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب وما سوف يقترن بالقرار من خسائر فادحة لعشرات الشركات الأوروبية العملاقة التي استأنفت التعامل مع الاقتصاد الإيراني؛ ثمّ ما يُنتظر من «فيلق القدس» على صعيد التسخين العسكري ضدّ المحور الأمريكي ـ الإسرائيلي، ليس في سوريا وحدها بل في العراق ولبنان أيضاً، وجبهات أخرى تبدو ساكنة لكنها قابلة للإشعال والاشتعال عندما تقتضي الحاجة. وليست مفارقة، إلا عند السذّج بالطبع، أنّ رامي مخلوف، ابن خال الأسد وصيرفي العائلة وتمساح الفساد الأشرس والأقذع، كان أوّل من أنبأ العالم، منذ أيار (مايو) 2011، بأنّ استقرار إسرائيل مرتبط باستقرار النظام السوري.
مفارقة مضحكة، في المقابل، أن يصرّح وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتز، أنه «لو سمح الأسد لإيران بأن تحيل سوريا إلى قاعدة عسكرية ضدنا وتهاجمنا من الأراضي السورية، فإن عليه أن يعلم أنّ هذه نهايته ونهاية نظامه ولن يبقى حاكماً لسوريا أو رئيساً لسوريا». ذلك لأنّ دولة الاحتلال ذاتها، وليس الأسد وحده، سمحت بتحويل سوريا إلى قاعدة إيرانية غير مباشرة عبر «حزب الله»، ثمّ قاعدة إيرانية مباشرة عبر الجنرال قاسم سليماني، ثمّ قاعدة روسية منذ أيلول (سبتمبر) 2015؛ من منطلق النظرية إياها: أنّ نظام آل الأسد هو الشيطان الذي عرفناه واختبرناه منذ سقوط الجولان، حين كان الأسد الأب وزير الدفاع؛ مروراً باتفاقية فكّ الاشتباك، 1974، التي حالت دون إطلاق بندقية صيد في طول الجولان المحتلّ وعرضه؛ وصولاً إلى سحب وحدات النظام من مواقع انتشارها على خطوط الجبهة مع الاحتلال، وتوجيهها إلى الداخل السوري لقمع التظاهرات السلمية وقصف القرى والبلدات والمدن.
كذلك يتجاهل شتاينتز (إذْ لا يعقل أنه يجهل، وهو العضو في الحكومة الأمنية المصغرة، وشغل في الماضي وزارات حساسة مثل الاستخبارات، والعلاقات الدولية، والشؤون الستراتيجية…)؛ أنّ الأسد لم يختر طائعاً تحويل الوجود العسكري الإيراني إلى قاعدة آخذة في الاتساع والتضخم، بل كان في هذا مرغماً، غير كارهٍ بالطبع؛ تماماً كما كانت عليه حاله حين اقتيد إلى موسكو للتسليم بكلّ ما اشترطه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبيل التدخل العسكري الروسي المباشر. ومثلنا نحن السوريين، ومثل العالم بأسره، لا بدّ أنّ شتاينتز قرأ تصريح علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، أنه «لولا الدعم الإيراني لسقط نظام بشار الأسد خلال أسابيع»؛ أو تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأنّ «دمشق كانت ستسقط خلال أسبوعين لولا تدخلنا». فإذا كانت إيران عامل إنقاذ لنظام «أهون الشرّين»، الذي تحرص إسرائيل أيضاً على إنقاذه، وعلى بقائه؛ فإنّ شتاينتز يُغفل هنا هذه الحقيقة البسيطة: لقد تطابقت أغراض طهران وتل أبيب، يومئذ، حول إنقاذ الجندي الأسد!
.. ثمّ تقاطعت الأغراض، بعدئذ، أو تناقضت في قليل أو كثير، حين مارست طهران حقها في البناء على كلّ قطرة دم خسرتها دفاعاً عن نظام الأسد، وحين تمسكت بكلّ مكسب جنته أو يتوجب أن تجنيه لقاء الجهود العسكرية والمالية الهائلة التي بذلتها في سوريا منذ عام 2012 على وجه التحديد، حين تلقى حسن نصر الله التكليف الشرعي من وليّه الفقيه بنقل «بندقية المقاومة» من الجبهة ضدّ إسرائيل إلى الجبهة ضدّ انتفاضة الشعب السوري. فهل توقع نتنياهو أن تلتزم طهران بما جمعها مع إسرائيل من توازن، خفيّ في معظم بنوده ومعلَن في قليل منها، منذ فضيحة «إيران ـ كونترا»، 1985؛ حين عقدت إيران اتفاقاً مع إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (أو «الشيطان الأكبر» دون سواه!)، لتزويدها بأسلحة متطورة في حربها مع العراق، لقاء إطلاق سراح رهائن أمريكيين كانوا محتجزين في لبنان. يومها كان أري بن ميناش، المندوب عن المخابرات الإسرائيلية، حاضراً في جلسات التفاوض الأمريكية ـ الإيرانية التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس، لأنّ دولة الاحتلال كانت هي المكلفة بنقل شحنات الأسلحة؛ ويومها، أيضاً، كان تطابق المصالح بين طهران وتل أبيب هو سيد اللعبة.
اتفاق، إذن، توجّب أن يعقبه شقاق تلقائي حين أخذت برامج إيران تتجاوز إنقاذ نظام الأسد، إلى بناء منظومة جنينية مرشحة للتطوّر إلى ما يشبه سيرورة هيمنة «حزب الله» على الحياة السياسية والاجتماعية والعسكرية والأمنية في لبنان. وهذا في ذاته تطوّر جدير بإثارة قلق نتنياهو وجنرالاته في الجيش والاستخبارات، فكيف إذا اقترن بخطوات ملموسة على درب تطوير الصناعة البالستية الإيرانية إلى مستويات أرقى ليست بالغة الخطورة على جميع أراضي دولة الاحتلال فحسب، إذْ كان هذا الخطر ماثلاً أصلاً في كثير أو قليل؛ بل كذلك في ارتقاء التصنيع الصاروخي إلى مستوى حمل رؤوس نووية، قد تطيح في أية لحظة بالدرجة صفر من التوازن، المعيار الذي حكم التسابق الذرّي منذ هيروشيما وناغازاكي. وكيف إذا كان النظام، الذي ضمن صمت المدافع المطبق في الجولان المحتل منذ 1973، لم يعد هو الناظم الأول للسلطة في سوريا، فتبعثرت هذه بين طهران وموسكو وما هبّ ودبّ من ميليشيات جهادية ومذهبية.
جدير بالانتباه، أخيراً، أنّ الجولة الأحدث من عمليات القصف الكثيفة التي نفذها الطيران الحربي الإسرائيلي ضدّ مواقع إيرانية في سوريا، تمّت بعلم موسكو كما أعلن مسؤولون في دولة الاحتلال. وليس في هذا أيّ جديد، بالطبع، إذْ ظلت الرادارات الروسية صمّاء عمياء أثناء عمليات إسرائيلية مماثلة؛ ما خلا أنّ نتنياهو كان في موسكو، كتفاً إلى كتف مع بوتين، أثناء تنفيذ الضربات الأوسع. في عبارة أخرى، ليس منافياً للمنطق أن يكون الكرملين سعيداً بالضربات الإسرائيلية التي تستهدف تهميش الوجود العسكري الإيراني في سوريا، فهذا مآل يخدم الاستثمار الروسي هنا، على المدى القريب والبعيد معاً؛ خاصة في ضوء التقارير المتزايدة التي تتحدث عن منافسة شرسة بين موسكو وطهران على اكتساب، أو تجنيد، الميليشيات المنتشرة كالسرطان في الساحل السوري.
وما دامت فواتير مبدأ «الشيطان الذي نعرف» مستحقة الدفعة، فلا غرابة أن تسير المقايضات على هذه الشاكلة المتشابكة، الشعواء.
عذراً التعليقات مغلقة