الحرية الغائبة في الاسلام
أحمد عزام
مئات الآلاف من المسلمين قد يجتاحون شوارع العواصم من أجل رسمٍ كاريكاتوري رخيص مسيء للنبي محمد، بينما لن تهزهم مشاهد القتلى والجوعى في كل أصقاع الأرض، كما أن أغلب المسلمين يهدرون من أعصابهم وغضبهم من أجل قضايا هامشية كحجاب المرأة وعورة المرأة وشرفها، بينما لا يغضبهم إذلال الأجهزة الأمنية لكرامتهم اليومية وسرقة ثرواتهم الممنهج من قبل مافيات الدول المستبدة، وهذا بطبيعة الحال عائد لأن المسلمين عامةً لا يقدسون الحرية وكثيراً ما يصعدونها إلى أشكال أخرى لا تشبه قيمة الحرية التي هي مطلب أساسي في القرآن الكريم.
إن غياب قيمة الحرية في الاسلام تَرسخ بفعل التراث الفقهي الذي ركز كل الاهتمام لطاعة أولي الأمر، وهنالك العديد من الأحاديث الضعيفة الاسناد لا تزال تفعل فعلها حتى يومنا هذا، كحديث ابن اليمان “اسمع وأطع الأمير لو ضرب ظهرك وأخذ مالك”، وحديث ابن مسعود “إذا كان الامام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان جائراً فعليه الوزر وعليك الصبر” وحديث أخرجه الامام أحمد “من أكرم سلطان الله أكرمه الله، ومن أهان سلطان الله أهانه الله، وغيرها الكثير من الأحاديث التي اعتاد عليها المسلم ليزيح عن كاهله عبء اتخاذ القرارات وحقه في الاختيار والمشاركة السياسية، وبالتالي مخالفة حقه في الاختيار العقلي الذي خصه الله سبحانه وتعالى به عن سائر المخلوقات.
وإذا أتينا للمعنى القرآني للحرية سنجد أنها عكس الرق، فكل من هو ليس عبداً مملوكاً يعتبر حراً وهذا فهم سالب للحرية كما في قوله تعالى في سورة البقرة “كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد” (البقرة)، علماً أن هذا الفهم ليس اختصاصاً اسلامياً بل هو متأصل في الحضارة الاغريقية والرومانية أيضاً، وقد اشتُقت كل اضافة موجبة من هذا الفهم السالب للحرية في أخلاق الأسياد وحدهم، فالأسياد وحدهم من يُتغنى في حريتهم، وتدرَج هذا المفهوم حتى أوائل عصر النهضة الأوروبي، وارتبط مع نظرية دارون التي أقرت بوجود أعراق دون غيرها قادرة على الحرية وهذا ما كان متجسداً في كتابات هربرت سبنسر الذي أثر على العديد من النهضويين العرب في محاولاتهم لزراعة تصورات الحرية الحديثة بشكل مصطنع في التاريخ والفكر الاسلامي كاستراتيجية لمواجهة مجتمع تقليدي تسيطر عليه قوى محافظة، ويؤخذ على النهضويين العرب من الليبراليين الأوائل مأخذين:
الأول أنهم أهملوا تاريخية هذه الأفكار الأوروبية وحاولوا تطبيقها على تاريخهم الاسلامي والعربي والثاني هو تأويلهم لهذه الأفكار بشكل يتلاءم مع العقيدة الاسلامية التراثية لذلك لم تخرج مفاهيمهم عنها أصيلة الطابع.
ماذا لو أزلنا التراث الفقهي عن معنى الحرية؟
يتساءل المفكر الاسلامي محمد شحرور؛ هل من الممكن أن الله سبحانه وتعالى قد أهمل قيمةً مثل قيمة الحرية؟، ويعتقد أن الحرية هي كلمة الله التي سبقت أهل الأرض في الوجود “ولولا كلمةٌ سبقت من ربك لقضي بينهم” وقد ذُكرت هذه الآية خمس مراتٍ في سورة هود ويونس وطه والشورى وفصلت. فالحرية تجعل من كلمة الله هي العليا وإقصاؤها يجعل كلمة الله هي السفلى، والله قد أعطى الانسان المشيئة حتى في إيمانه بوجود الله من عدم وجوده “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف) والمشيئة هي الأساس في الاختيار العقلاني الذي هو العمود الفقري لأي حريةٍ من أي نوعٍ كان، بهذا المعنى، عندما نجبر شخصاً ما على الإيمان بالله فنحن نجعل من كلمة الله هي السفلى فلا إكراه في الدين، ويقدم محمد شحرور فهم مستند إلى الأصول ليميز بين العباد والعبيد، فالعبيد لم يأتِ ذكرهم في القرآن إلا كعبيد مملوكين “ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء” (النحل)، أما العباد فتأتي من جذر (عَبَدَ) أي أطاع أو عصى وهي من الأضداد في اللغة العربية “وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون” (الذاريات) أي ليطيعوني بملئ إرادتهم ويعصوني بملئ إرادتهم، وفي قوله تعالى “قل إن كان للرحمن ولداً فأنا أول العابدين” (الزخرف) وهنا تأتي بمعنى أول العاصين والكافرين.
إن وضع الدين في خدمة السياسة وجه ضربةً قاسمة لمعنى الايمان الحقيقي الذي غابت عنه أسمى معانيه وهي الحرية، كما أن استمرار التشريعات الفقهية في الوجود إلى وقتنا الحالي فصل الناس عن الواقع السياسي، بل وضعهم في حالة دفاع مستميت ضد حقهم في الاختيار وإبداء الرأي، وهذا ما سهل المهمة على رجال “الكهنوت” في تأسيس الأصولية الاسلامية وظهور الجماعات المتطرفة، فهذا النوع من الأصوليات يحتاج إلى أفراد مسلوبي الارادة، وإلى رجلٍ يصرخ أنا الحق من ربك، فتسري القشعريرة في أبدان أتباعه ويساقون كالقطيع “في سبيل الله” ويبقى لأصحاب المصالح أن يختاروا لهم المذبح المناسب.
Sorry Comments are closed