عادت احتمالات الحرب إلى النقاش في مصير الاتفاق النووي، مستعيدةً مراحل التصعيد في أعوام سابقة، وكأن أزمة البرنامج النووي الإيراني لا تزال تتفاعل منذ بدأت عام 2002، بل كأن المفاوضات التي استغرقت عامين والاتفاق الذي توصلت إليه في 2015 لم يغيّرا سوى جانب ضئيل من سياقها. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خاطب الكونغرس الأميركي قبل أسبوع قائلاً: «يجب ألا تقودنا سياسة إيران إلى حرب في الشرق الأوسط»، أما وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان فتحدث عن الاستعداد لكل السيناريوهات. والمعروف أن إسرائيل حاولت منذ أيام بوش الابن وخلال ولايتَي باراك أوباما الحصول على ضوء أخضر لضرب المنشآت النووية في إيران، لكن واشنطن عارضت أي عملية قد تفجّر حرباً تُعرف بدايتها ولا تُعرف لها نهاية.
هذا لم يمنع إيران من اللعب عند حافة الهاوية، بل مكّنتها أدوارها في سوريا والعراق واليمن ولبنان من دفع التصعيد إلى أقصاه، غير أنها كانت متيقّنة بأن إدارة بوش لا تريد مواجهة معها بعد النتائج الملتبسة لغزو العراق واحتلاله، وأن إدارة أوباما التي تأثرت بدروس التجربة العراقية لم تكن في وارد الذهاب إلى أي حرب، حتى أنها انتهت كما بدأت باحثةً عن «تطبيع» واهم للعلاقات مع إيران. لكن هناك فارقاً حالياً في أن دونالد ترامب لا يريد أن يكون كسابقَيه، فلا هو بمحارب مثل بوش ولا بمجادل مثل أوباما، إلا أنه لا يمانع في اشتعال حرب محدودة يمكن أن تصب في استراتيجيته دون أن ترتّب على إدارته أي تكاليف أو التزامات. لذا فهو يدعم أي حرب تشعلها إسرائيل ضد الإيرانيين ومليشياتهم في سوريا، وربما في لبنان أيضاً.
قد تقع تلك الحرب وقد لا تقع، فإسرائيل تعتبرها خياراً لا بدّ منه، وتعتقد أنها تأخّرت في الشروع به رغم «ازدياد المخاطر على أمنها ومصالحها» كما تقول، فيما تتهيأ لها إيران آملةً التخلّص من الضغوط التي تهدّد مصالحها في سوريا ولبنان، وقد تؤثّر على وجودها القوي والواسع في العراق. ثمة موعدان في مايو الحالي: في 12 منه يفترض أن يعلن ترامب انسحاب أميركا من الاتفاق النووي وفرض عقوبات جديدة على إيران، وثمّة تكهّنات بأن تهديد طهران بالرد بانسحاب مماثل ربما ينطوي على رغبة خامنئي في عدم انتظار قرار ترامب واستباقه بإعلان الاتفاق لاغياً بعد أن يكون أمر باستئناف التخصيب عالي المستوى لليورانيوم. كان خامنئي أبدى مآخذ، منها أن الاتفاق جمّد البرنامج النووي ولم يأت بالمكاسب المتوقّعة، ومنها أيضاً أن أميركا أرادت الاتفاق وسيلة للتأثير في خيارات إيران السياسية والاقتصادية.
مصير الاتفاق بحد ذاته لن يتسبّب بأي حرب، لكن إيران دخلت منذ الآن مزاج اعتباره حدثاً مفصلياً، وقد تتخذ من الموعد الآخر في منتصف مايو (نقل السفارة الأميركية رسمياً إلى القدس) مناسبة يمكن استغلالها سياسياً وإعلامياً لافتعال مواجهة دامية على خلفية اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكذلك لتنفيذ عملية انتقامية لقتلاها في ضربة إسرائيل لمطار «تي فور» في سوريا، وفقاً لما توعّدت به. وعلى أي حال، لا تريد طهران تمرير هذا الموعد من دون حدث يحمل توقيعها، حتى لو أدّى إلى ردّ تصعيدي إسرائيلي يتوقّعه الإيرانيون في سوريا ويستعدّون للتعامل معه، إذ يرون في سيناريو كهذا فرصة لتثبيت نفوذهم وإحباط أي محاولة لضربه.
كانت إيران راهنت ضمنياً على الخلاف الأوروبي الأميركي حول الاتفاق النووي، وهو خلاف مستمر، فالمحاولة الفرنسية لتغيير موقف ترامب لم تفلح. لكن الأكيد أنه لم يكن في مجمل اقتراحات ماكرون، لو نجحت، ما يطمئن طهران. فهو يدعو بوضوح إلى: 1) التفاوض على قيود للبرنامج النووي في مرحلة ما بعد 2025. 2) إزالة الغموض من البنود المتعلّقة بالبرنامج الصاروخي. 3) وضع ضوابط للسياسات الإقليمية لإيران.. وفي ضوء ذلك وجدت إيران أن أطروحة ماكرون لا تشكّل عرضاً تفاوضياً يمكن درسه، فهي ترمي إلى الحفاظ على الاتفاق الحالي بهدف تعديله، ولا تقدّم أي محفّزات تتعلّق مثلاً برفع العقوبات الأميركية، وفوق ذلك يدرس الأوروبيون حزمة عقوبات بغية إقناع ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق، ولن يقنعوه. يبقى لطهران أن تعوّل على تطوير علاقاتها مع الصين وروسيا، لكن هذا الخيار لا يحلّ أزمتها، بل يطيلها ويفاقمها.
Sorry Comments are closed