كانت وصية الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) أن يتم دفن جثمانه في مخيم اليرموك في دمشق، ولم يكن تنفيذ هذه الرغبة سهلا، لأن الرئيس السوري حينذاك، حافظ الأسد، رفض التجاوب معها، ولكن بعد انتظار ووساطات قامت بها شخصياتٌ رفيعة المستوى، استجاب الأسد بشروط، منها أن تكون مراسيم التشييع محدودة جدا، وتحت إشراف الأجهزة السورية.
وكان السؤال يومها: لماذا تحرّج الأسد من الموافقة على دفن شخصيةٍ بقامة أبو جهاد في مخيم اليرموك، والرجل هو الثاني في الثورة الفلسطينية، وقائد انتفاضة الحجارة، في وقتٍ كان يمكن للإعلام الرسمي السوري استثمار المناسبة، وتوظيفها لصالح القيادة السوريةالمطعونة بشرفها الفلسطيني؟
لم يكن الأسد على تفاهم مع قيادة حركة فتح التي يحتل أبو جهاد موقع الرجل الثاني في هرميتها بعد ياسر عرفات. وليس سرا أن الأسد اختلف مع قيادة “فتح”، منذ كان وزيرا للدفاع، وقبل أن يصل إلى الرئاسة في انقلاب 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، وعارض أن يكون للحركة أي حضور أو عمل من داخل سورية، ما لم يكن تحت إشراف الأجهزة السورية، وفي المقام الأول الأعمال الفدائية ومعسكرات التدريب، وهذا يفسر موقفه من المواجهات العسكرية بين الثورة الفلسطينية والحكم الأردني في سبتمبر/ أيلول 1970، حيث أخذ جانب السلطات الأردنية، ورفض تقديم العون للمقاومة الفلسطينية التي تعرّضت لنكسة كبيرة.
حصلت المواجهة الكبيرة بين الأسد وحركة فتح، وكانت على الساحة اللبنانية، واستمرت طوال عقد السبعينيات حتى خروج الثورة من بيروت في سبتمبر/ أيلول 1982، وكان عنوانها الصراع على القرار الفلسطيني المستقل الذي مثله نهج عرفات السياسي، ويشكل ذبح مخيم تل الزعتر في 1976 محطة رئيسية في حرب المقاومة مع النظام السوري.
وطوال الصراع، شكل مخيم اليرموك مكانا عصيا على النظام السوري الذي وضعه تحت المجهر، ونشر فيه أتباعه من الفصائل الفلسطينية الذين تفرّغوا لرصد النشاط الفلسطيني، غير المندرج ضمن توجهات النظام، لكن الكتلة الشعبية في المخيم كانت عكس التيار، مثل بقية تجمعاتٍ فلسطينيةٍ في الداخل والخارج، تقف إلى جانب منظمة التحرير وقائدها ياسر عرفات، وهذا ما ظل على الدوام يؤرق حافظ الأسد الذي كان يدرك أن دفن أبو جهاد في اليرموك ذو قيمة رمزية لا تصب في رصيد من ذبح تل الزعتر.
ولم يكن اليرموك مخيما لاستيعاب الشتات الفلسطيني كما بقية المخيمات، بل حالةٌ فريدةٌ طغى عليها النفس المناهض للنظام ضمن مزيج فلسطيني سوري نشأ، في البداية، على نحو عفوي، ومن ثم تحول إلى نوع من الهوية الخاصة تدمج المشتركيْن الفلسطيني والسوري، وتحوّل مع الوقت إلى تماهي معارضة النظام باعتناق القضية الفلسطينية، وهذا ما جعل النظام يحسب للمخيم حساباتٍ كثيرة. ومن هنا، وقف المخيم مع ثورة الشعب السوري، ولم تتمكّن مفارز العملاء من إسكاته، ومنعه من التحول إلى ساحة فعلية للحراك الشعبي الذي استعصى فيه على النظام ضرب معادلة المخيم التي أنتجت الفلسطيني السوري والسوري الفلسطيني.
جرى التعامل مع المخيم بالطيران الحربي، ولم يوفر النظام سلاحا إلا واستخدمه، وخصوصا الحصار والتجويع الذي أدّى إلى هجرة جماعية. وطرح بعض قادة النظام، في أكثر من مناسبة، مسألة التخلص من المخيم نهائيا، لاجتثاث جذور الشجرة الفلسطينية التي ضربت عميقا في الأرض السورية.
عذراً التعليقات مغلقة