توثقت العلاقة التاريخية بين مناطق حوض المتوسط الجنوبي بدءاً ببلاد الشام مروراً ببرقة وقرطاجة ووهران وطنجة، ووصولاً إلى نهر السنغال في أقصى جنوب ساحل المغرب العربي، حيث ربطت هذه المنطقة علاقات تاريخية مصيرية منذ ما قبل انتشار الإسلام، أي في العهد الإمبراطوري الروماني. وقد قويت هذه العلاقات بشكل أكبر بعد الفتح الإسلامي وتحول هذه المنطقة إلى أمة واحدة، فاتسعت التجمعات العمرانية الإسلامية على طول الساحل المتوسطي. هذا التقديم ليس غاية بحثنا، بل غاية القول إن بلاد المغرب وبينها الجزائر اتصلت بسورية منذ زمن بعيد. وقد برز دور المغاربة في مساندة أهل الشام في مقاومة الغزو الصليبي في حملاته المتوالية؛ إذ كان المغاربة يأتون للجهاد والحج، فيجاهدون ويحجون، أو يحجون ويجاهدون، أو يجاهدون وتكتب لهم الشهادة في سبيل الله.
واللافت في الفترة الحديثة، كيف تحولت دمشق حاضرة الشام إلى موطن للزعيم المجاهد عبد القادر الجزائري، ومحوراً لتأثيرات الفكر الباديسي الذي تردد أصدائه في المشرق العربي عامة، كذلك استعمار فرنسا لسورية بين عامي 1920 و1946م. فالمخزون التاريخي، والتقارب الروحي والمصيري الذين تشكلا بسبب وجود تلك المؤثرات زادت الموقف السوري قوة في دعم ومناصرة كفاح الشعب الجزائري ضد المستعمِر الفرنسي في خمسينات القرن العشرين.
ولا يخفى أن سورية كانت تعيش في تلك المرحلة حالة نشوة بعد تحقيق الاستقلال عن الفرنسيين عام 1946، وتحديث جيشها وبناء علاقاتها الخارجية في مطلع الخمسينات ووقوفها في معسكر مناوئ للتوغلات الرأسمالية والمطامح الغربية “الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا”. هذا الأمر جعل موقف الحكومة والشعب السوري متميزاً في التأييد المطلق للثورة الجزائرية، والانتقاد الشديد لأي موقف لحكوماتهم لا يرقى للأهداف والوسائل الكاملة لحرب التحرير الجزائرية (1954 – 1962م)، ومطالبين إعلامياً أو عن طريق المظاهرات أو في المجلس النيابي «الممثل نوابه من مختلف الأحزاب السياسية في سورية» بمقاطعة فرنسا، والضغط على جامعة الدول العربية لاتخاذ موقف فعال وواضح ومؤيد دون تحفظ لتحرير كل الأراضي العربية المحتلة.
- مواقف البرلمان السوري:
تزامناً مع تحول حرب التحرير الجزائرية إلى مرحلة هامة في التنظيم والشمولية عقب مؤتمر الصومام «أوت 1956م» ؛ كثف مجلس النواب السوري من جلساته، من أجل متابعة تصاعد حرب التحرير الجزائرية وتضاعف قمع الاستعمار الفرنسي للشعب الجزائري، وخصص جلسات خاصة لمناقشة مدى التأييد العربي للثورة الجزائرية من خلال مداخلات النواب، والجميع قدم انتقادات شديدة لعدم وصول التأييد العربي للثورة الجزائرية إلى مستوى تضحيات الشعب الجزائري ومستوى قوة القمع الفرنسي، وانتهوا إلى قرارات شديدة اللهجة تدعم كفاح الشعب الجزائري على كل المستويات.
- موقف رئيس الجمهورية الأولى في سورية “شكري القوتلي”:
تضاعف الدعم الحكومي السوري في عهد الرئيس شكري القوتلي، ومنذ البداية اتخذ مواقف مبدئية مؤيدة للثورتين المصرية والجزائرية، ومندداً بكل محاولات التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية من طرف القوى الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، وبهدف تدعيم الوجود السياسي الجزائري ، دولياً؛ عملت سورية على استغلال أي حدث وطني بسورية له طابع دولي للتحسيس بالقضية الجزائرية وإشراك الجزائر مباشرة فيه ، مثلما حدث في معرض دمشق الدولي «أكتوبر 1957م» ، وأثار الجزائريون فيه دوياً، ويستغل ممثلو الجزائر هذه التظاهرة لدعم قضيتهم، واللقاء مع الوفود الرسمية بتشجيع وتنسيق قادة الحكومة السورية، وعلى رأسهم الرئيس القوتلي نفسه، وخلال زيارته لجناح الجزائر أكد القوتلي وقوف حكومته دون تحفظ بجانب أي قضية عربية ذات بعد قومي، داعياً العرب حكومات وشعوباً إلى مد يد العون وتأييد الجزائر في جهادها ضد الاستعمار.
وأكد للوفد الجزائري الذي زار سورية في مارس 1957م: أن سورية مشتركة معكم في القتال، إن أردتم سلاحاً أمددناكم بالسلاح، وإن أردتم مالاً عندنا ما نستطيع بذله، وإن أردتم رجالاً فرجال سورية مستعدون لخوض الوغى إلى جانبكم، أقول لكم هذا علناً وجهراً لكي تسمع فرنسا قولنا، ولكي تعلم أننا قوم جد لا هزل، وأنا أكلم قائد الجيش السوري هنا أمامكم ليفتح مخازن الذخيرة حتى يأخذ منها المجاهدون الجزائريون ما يريدون، لقد عقدنا العزم النهائي على أن نموت أو نحيا معاً، وستكون لنا الحياة الحرة الكريمة بإذن الله.
- يوم الجزائر في سورية:
في يوم 10 رمضان عام 1377هـ الموافق 30 مارس 1958م ، كانت دمشق العاصمة السورية على موعد مع يوم الجزائر الذي تميز بإقامة الاحتفالات والمهرجانات الثقافية، أبرزها ذلك الاحتفال الذي أقيم تحت الرعاية السامية لرئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي، وبحضور العديد من الوزراء والشخصيات البارزة منها: وزير الداخلية آنذاك عبد الحميد السراج، والسيد أكرم الحوراني نائب رئيس الجمهورية، والسيد كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم، والأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عبد الخالق حسونة، ومنظر القومية العربية ميشال عفلق، وكذلك سفير المغرب في دمشق السيد المحجوب بن الصديق ، وممثل جبهة التحرير الوطني الغسيري.
وقد تم تشكيل هيئة بالعاصمة السورية دمشق يتمثل عملها في جمع التبرعات المالية، وقد عرفت هذه الهيئة بجماعة أسبوع الجزائر، حيث كانت تقدم الأموال بعد جمعها إلى مكتب جبهة التحرير الوطني الجزائرية بدمشق، وهو من جانبه يقوم بوضعها في أحد البنوك هناك، وكان عمل جماعة أسبوع الجزائر تجاه الثورة الجزائرية بتوجيه من الرئيس شكري القوتلي، وبأمر منه. وخلال الأسبوع الجزائري في مارس 1957م مثلاً تسلم الوفد الجزائري 1,800,000 ليرة سورية و49،130،132 دولارًا بصكوك موقعة من الرئيس القوتلي نفسه، وفي نفس السنة تسلم ممثل مكتب جبهة التحرير الوطني بدمشق صكاً آخر قدره مليار وخمسة ملايين فرنك.
- السوريون ودعم الثورة الجزائرية بالسلاح والرجال والغذاء:
سهلت الحكومة السورية عملية جلب الأسلحة واقتنائها، وقامت بفتح حدودها مع العراق وجعلتها منطقة عبور للأسلحة الآتية من العراق، وهذا بناء على الاتفاق الثنائي بين الحكومة السورية ولجنة السلاح الجزائري، الذي يشترط على سورية التكفل بتأمين الأسلحة وضمان إرسالها إلى الجهة التي تعينها الهيئة المشار إليها.
ولم ينحصر الدعم المادي في الناحية المالية وتزويد الثورة الجزائرية بالأسلحة سواء من مخازن الجيش السوري أو عن طريق فتح حدودها لنفس الغرض، وإنما تجسد هذا الدعم في أرض المعركة حيث فتحت سورية باب التطوع لكل السوريين سواء الوسط الشعبي أو الوسط العسكري، وبالتالي أصبحت الرغبة في الجهاد لدى السوريين أمراً ضرورياً، لأنه نصرة لإخوانهم الجزائريين الذين هم بأمس الحاجة إليهم أكثر من أي وقت مضى.
ومن هذا المنطلق توافد على أرض الجزائر بعض الإخوة السوريين الذين انضموا إلى صفوف الثورة المباركة، ودعموها بضباط سامين ساهموا بدرجة كبيرة في تدريب وتوجيه أفراد جيش التحرير الوطني في الجبال وتلقينهم الأساليب الحربية الجديدة.
وإذا كان السلاح بالنسبة للجزائريين قضية ضرورية، فإن المواد الغذائية هي الأخرى كانت ذات أهمية، ودعمت سورية جبهة التحرير الوطني بكمية كبيرة من القمح بحوالي ألفي قنطار من القمح السوري مجاناً، واستمر الدعم العسكري بالسلاح والعتاد لثوار الجزائر، وتدريب فرق من أعضاء جيش التحرير بما فيها التدريب على الطيران العسكري. وكان الطلبة الجزائريون هناك يعاملون كسوريين ويشاركون الاحتفالات والأعياد الوطنية الرسمية كجنود وضباط سوريين مرتدين الزي العسكري السوري، ويشاركون حتى في الاستفتاءات الوحدوية مثل الاستفتاء على الوحدة بين سورية ومصر.
لقد كان الشعب السوري، بمختلف تياراته الاجتماعية والسياسية والفكرية والعسكرية، ينظر إلى ثورة الجزائر وانتصارها على أنها دعامة لأقطار المغرب العربي في الشمال الأفريقي، وللأمة العربية والإسلامية قاطبة. وهو الأمر الذي كان يشكل قوة في مواجهة الهيمنة الإمبريالية الغربية، ويعيد للقيم الإنسانية ألقها، وللحضارة العربية الإسلامية حضورها، من حيث دور الجزائر بإمكاناتها، ووزنها الفاعل عربيًا وإسلاميًا.
هكذا وقفت الحكومات السورية وشعبها قلباً وقالباً لتحقيق انتصار ثورة الجزائر على المستعمر الفرنسي. وساهمت بذلك المعاناة والمواجهة المشتركة للشعبين الجزائري والسوري ضد الاستعمار الفرنسي. فكان للسوريين دور محوري في ذلك الكفاح حتى انتصرت الجزائر على الفرنسيين، ونالت حريتها وسيادتها واستقلالها.
مراجع:
- أحمد توفيق المدني، حياة كفاح
- أحمد حلواني، موقف الشعب السوري من ثورة التحرير الجزائرية: خلفياته، وأشكاله، وطموحاته، ونتائجه)، دمشق، الجمعية العربية للعوم السياسية، ص. ص 1 – 14.
- إسماعيل دبش، السياسة العربية والمواقف الدولية
- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري، إستانبول، دار الروضة، ج3، ص. ص 674 – 679.
- مريم صغير، مواقف الدول العربية من القضية الجزائرية.
Sorry Comments are closed