في الوقت الذي لم تجف فيه بعد دماء مدنيي غوطة دمشق بفعل مجازر الأسد وحليفيه الإيراني والروسي، جاء تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن ترجيحه بقاء الأسد في السلطة كما لو أنه إقرار من القيادة السعودية بأنها نفضت يدها من موقفها بدعم مطالب السوريين بالخلاص من نظام الإجرام في دمشق.
لم يكن مفاجئاً للسوريين الأحرار أن يصرح الأمير السعودي علناً بما سارت عليه السياسة السعودية منذ أكثر من عام في إدارتها للملف السوري، وهي سياسة أدرك أحرار سوريا مدى فجاجتها بالتخلي عن مطالبهم المشروعة، ولا سيما بعد انعقاد مؤتمر الرياض الثاني في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، وما رافقه من إجراءات وضغوط سعودية أدت إلى صدور بيان الرياض2 بكل ما احتواه من غموض يخدم الأهداف الروسية والإيرانية في إعادة تعويم نظام الأسد، كما أدت إلى إبعاد شخصيات وازنة في المعارضة السورية عن التشكيل الجديد لهيئة التفاوض، على حساب إدخال منصات موسكو والقاهرة وشخصيات لا يثق ثوار سوريا بمواقفها التي لا تخطئ عين الحر مهادنتها لنظام الأسد وارتباطها بشكل وثيق بدول معادية للثورة السورية ولكل ثورات الربيع العربي.
السياسة السعودية تجاه الثورة السورية انقلبت بشكل مفجع ليس على مصالح السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد والإجرام والتغلغل الإيراني في شؤون بلادهم فحسب، بل هو انقلاب على سياسات المملكة الاستراتيجية التقليدية نفسها، وراحت القيادة السعودية تحبو صوب تحقيق تقارب مؤقت مع الروس، يعكس خفة في فهم ومعالجة خطورة التمدد العدواني الإيراني في منطقتنا العربية، وعمق التحالف الروسي الإيراني.
تصريح ولي العهد السعودي عن الأسد وبقائه في السلطة، اقترن بطلب بقاء القوات الأمريكية في سوريا، لوقف تمدد النفوذ الإيراني ومنع إقامة ممر بري يحقق لإيران السيطرة على جغرافية متصلة تجعلها مهيمنة على منطقة “الهلال الخصيب” الاستراتيجية وصولاً إلى شاطئ المتوسط مروراً بالعراق وسوريا ولبنان، وهي دول يسيطر عليها نظام الملالي في طهران بالفعل، إذ أن تصريحا ولي العهد السعودي يظهران بوضوح أن السعودية هزمت.. ورفعت رايتها البيضاء في مواجهة المشروع الإيراني، وتسعى لشراء موقف أمريكي “غير مضمون النتائج” لإبقاء واشنطن على قواتها في الحدود الشرقية السورية لكبح جماح مشروع السيطرة الإيراني على هذه المنطقة.
وما يثير الاستغراب في هذين التصريحين أن السعودية هي التي فرّطت بأوراق قوتها في سوريا، بتخليها عن دعم الثورة السورية، التي لا يمكن لأي مشروع سواها أن يوقف التمدد العدواني الإيراني في المنطقة، وكل محاولة سعودية غير دعم الثورة السورية، لوقف السرطان الإيراني، هي محاولة بائسة وفاشلة، وكان على القيادة السعودية قبل الذهاب في سياستها الجديدة للاعتماد على واشنطن في هذه المهمة، أن تتذكر مصير القوات الأمريكية في العراق، وما نتجت عنه المواجهة الأمريكية الإيرانية في العراق من هيمنة نظام الملالي الشاملة والكاملة على العراق ومقدراته، وتحوله إلى ساحة تفريخ مليشيات إيديولوجية طائفية ضربت استقرار المنطقة بأسرها، وتهدد اليوم وكل يوم السعودية ونظامها السياسي والاجتماعي، ولن يهدأ لها بال قبل أن تضرب المملكة في مقتل، وهذا المقتل، حيث المنطقة الشمالية الشرقية للسعودية، وما يعتمل فيها من نشاط إيراني محموم ومنظم ضمن صفوف أبناء الطائفة الشيعية، لا يبعد عن الحدود السعودية العراقية إلا بمقدار المدى المجدي لقذيفة هاون من النوع البدائي!
في الملف السوري، تثبت القيادة السعودية مجدداً أنها بلا رؤية ولا استراتيجية للصراع في المنطقة، تماماً كما كانت بلا خطط ولا عمل جدي فعال في ملف اختطاف طهران لبغداد، وابتلاع مليشيا “حزب الله” للبنان، وفي فلسطين، ولا حتى في اليمن، حيث تكاد مغامرة “عاصفة الحزم” و”إعادة الأمل” تنكشف عن مستنقع بلا قرار، ولا أفق للخروج منه، وفي كل يوم يمر .. يمر صاروخ باليستي حوثي إيراني فوق رؤوس السعوديين ليذكرهم أن الدول الكبيرة تكون كبيرة حين تعرف ما تريد في الحاضر والمستقبل، وكيف ومتى تصنعه.
وعلى المقلب الآخر.. يعيش الشعب السوري الثائر مرارة خسارات كثيرة تجرعها بألم أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، لكنه لم يهزم بعد، ولا عذر للسوريين، ولا شيء يبرر لهم وقوفهم عاجزين أمام خيباتهم المتكررة من الأشقاء والأصدقاء، فثورتنا ليست مصلحة لأي دولة بمقدار ما هي مصلحة للشعب السوري ولمستقبل أبنائه، وعلى ثوار سوريا اليوم وليس غداً أن ينتهوا من وهم انتظار دعم الداعمين، ويفكروا في مخارج من حالة الانقسام المخجلة في صفوفهم، عسكريين وسياسيين ومدنيين، ويتجهوا نحو لقاء وطني جامع يسقط هياكل المعارضة التي ارتضت لنفسها الضعف والاستكانة والرضوخ لمصالح الداعمين أياً كانوا.. فالاحتلال وتقسيم البلاد صار حقيقة، والتهجير حصل، والقتل بالكيماوي والبراميل المتفجرة، والموت بالتعذيب والتجويع، ولم يبق للسوريين إلا أنفسهم وكرامتهم ووحدتهم، وبغير ذلك سيكون التصريح المعيب لولي العهد السعودي ببقاء الأسد، وبالتالي استمرار جرائمه، واقعاً صنعناه بأيدينا.
Sorry Comments are closed