بسام عمر ـ دوما ـ حرية برس:
عائشة المعروفة باسم “عيشه” انسانة بسيطة من مواليد مدينة حرستا تعيش وسط المدينة في دكان بسيط معدل للعيش والاستخدام البشري بديلاً عن منزل والديها بعد وفاتهما، لم تشئ الظروف “لعائشة” أن تتزوج بسبب الأقاويل التي أشيعت حولها أنها مجنونة أو ممسوسة، في حين أن الواقع أنها مصابة بهوس وسواس النظافة المفرطة، أصيبت به في طفولتها.
كل ذلك طبيعي بالنسبة للمتابع، لكن مع انطلاق شرارة الثورة في مدينة حرستا كان لعائشة دور لا ينسى في اتاهة عناصر النظام وتضلليهم عند مداهماتهم، عبر الشتائم التي كانت تطلقها عليهم، ومع اقتحام النظام للمدينة وبعد أن قامت الفصائل بإجلاء المدنيين تولى المجلس البلدي بنقل عائشة إلى منطقة التل، حيث لم تجد في تلك المنطقة أي تكيف مع الوضع المفروض عليها واطلاق الشتائم للنظام ولكل من يسانده.
وكانت تكرر دوماً أعيدوني إلى حرستا أريد الموت في بيتي، الماء هنا ليس له طعم كماء حرستا، أثارت تلك الكلمات مشاعر رئيس المجلس البلدي الذي قام بالتواصل مع أصحاب الشأن وإعادتها إلى منزلها.
تأقلمت عائشة مع الوضع في المدينة الذي تواجهه من قصف وغارات جوية واشتباكات، وهي التي تعيش في منزل لا يقيها حر الصيف ولا برد الشتاء دون ونيس يخفف عنها الخوف الذي ترتعش له الأبدان جراء الغارات وأصوات القذائف.
عائشة التي لا يوجد لديها أي مصدر تمويل ولا حتى من يعينها على قضاء حوائجها، سوى أحفاد أختها التي رفضت العيش عندهم في مدينة أخرى ولا يستطيعون الوصول لها دوماً بسبب القصف.
لم تشعر بالوحدة قط، سيما أنها تحادث الجيران والمارة الذين يتعايشون معها ويحيطون بها، وتأكل مما تطبخه من المواد التي قام المسؤولون في المدينة بتخصيصهم لها، بعد رفضها أن تقبل المواد المطبوخة حيث كان ردها (ما باكل شي ما شايفة كيف انطبخ)، وترفض التصدق عليها أو أخذ شيء من أحد كحسنة، والطريف في الأمر أن غالبية القياديين في المنطقة ووجهائها كانوا يخشوا لسانها الطليق، غير أنهم كانوا يحبون مجالستها والاستماع إلى أحاديثها عن تاريخ المدينة وقصص أهاليهم، حيث أنها تعرف أغلب الأهالي وتأصلاتهم.
عائشة التي كان بيتها نقطة علامة لكثير من الناس وكانت مصدر صمود للكثيرين، أبت أن تخرج من منزلها أو بلدتها وظلت صابرةً صامدة إلى أن أغتالها أحد صواريخ الفيل عن عمر ناهز الـ79 عاماً في ليل 7/3/2018، بنفس التاريخ الذي ودعت فيه دوما الجارة لمدينة حرستا واختها الشقيقة بطل الدفاع المدني وأحد مؤسسيه في المدينة محمد مصاروة “أبوسلمة” بعد نضال أسطوري كبير وتضحيات أكبر وأعمال نبيلة، بدأت من أكثر من سبع سنوات بمجهود فردي وأدوات بسيطة وعلى نفقته الشخصية بإنقاذ المصابين من القناصات التي كانت منتشرة عبر حواجز النظام في المدينة، وتعريض نفسه لمخاطر كبيرة من استهدافه بتلك القناصات وحتى الاعتقال في بعض الأحيان.
اختلف الأمر كلياً بعد تحرير الغوطة الشرقية، حيث بدأ برفقة أصدقائه وناشطين بتأسيس مركز دفاع مدني يقوم بالإسعاف واطفاء الحرائق وانتشال المصابين، فضلاً عن أعمال أخرى مثل تكفين الشهداء وتوثيقهم حتى تم تأسيس منظمة الدفاع المدني السوري، حيث شغل فيها مدير فرع المنظمة في ريف دمشق.
أكد من خلال موقعه أنه لم يكن مجرد مدير فقط، بل كان متطوعاً يقوم بواجبه على أتم وجه، لم يستطع الجلوس خلف طاولته بل كان متنقلاً بين سيارات الاسعاف و الآليات لإنقاذ أرواح المصابين والجرحى، وانتشال الشهداء من بين الركام على مدار ما يقارب الثلاث أعوام، حتى أعلن ابو سلمة استقالته من منصبه.
أبو سلمة ابن مدينة دوما البار، لم يتوقف عن تقديم خدماته للمنظمة التي لم يغادر مقرها يوماً، في حين كان رمزاً وقدوةً لأغلب عناصر المراكز المتطوعين، وكانوا كثيري الطلب منه أن يكون بينهم وعدم تركهم، ولم يتوانى عن تقديم الدعم النفسي أو التوجيهي لهم.
لا نستطيع إحصاء المئات التي أنقذها أبو سلمة أو ربما الألاف، لكن نستطيع القول أن تلك الناس وحتى غبار الحجارة التي رفعها عن مصاب أو شهيد ستكون شاهد له بإنسانيته وعمله العظيم، لم يتوانى عن انقاذ جريح أو تقديم العون في أعمال الإخلاء رغم استقالته، وحتى في أصعب الظروف التي تعد أشدها حالياً الحملة الهمجية التي ينتهجها النظام.
أبو سلمة كان متجهزاً دوماً يجوب المدينة في سيارته وعلى نفقته الخاصة، بيد أن سعر الوقود مرتفع فضلاً عن ندرته، إلا أنه لم يعط بالاً واستمر بتقديم العون حتى أخر رمق.
رحل أبو سلمة برصاص قناص بعد ايصاله عائلة قام بإخائها عائداً للبحث عن أخرين، لكن كان القدر أن يفارق الحياة وهو يقوم بعمل يذكر به ويكون اسمه على جدران تاريخ الثورة والمدينة.
أبو سلمة الذين كان يخاطر من أجل المصابين ويصل حيث يصعب لوصول لم يتسنى لفرق الانقاذ الوصول لجثته إلى اليوم الثالث من استشهاده، رحل وبقي اسمه محلقاً في سمائنا معلقاً في أذهاننا ترافقه كلمة البطل الانسان.
عذراً التعليقات مغلقة