لحظات كأنها المرور على الجمر بل أشد عايشها أبو سالم عند عبوره مع أرتال من الوفود الهاربين من القصف تحت حمم ونيران صواريخ الطائرات والراجمات التي لم تترك في بلدتهم سوى ذكريات منثورة بين رذاذ وركام منازلهم …
مع بزوغ خيوط الفجر الأولى وبدء انبثاق النور يهرع أهالي المناطق التي بدأت قوات الأسد ومليشياته باقتحامها بالهروب إلى المدن الأخرى تاركين خلفهم ما حصلّوه في عمرهم من منازل أو مواشي أو أراض زراعية كانت تعد مصدر رزقهم، لكن إلى أين الرحيل وأين ستكون المحطة؟
في ظل الحملة الهمجية الأخيرة على مدن وبلدات الغوطة ومع كثافة الغارات الجوية التي تتجاوز 70 غارة يومياً وسياسة الأرض المحروقة التي يتبعها مع حليفه الروسي اضطر الثوار الى الانسحاب من بعض المناطق التي لم يعد بالامكان الصمود بها أكثر من ذلك، وهو ما دفع الأهالي للنزوح من تلك المناطق الموازية لخطوط الجبهات والبحث عن ملاذ آخر ليس هرباً من القصف بل هرباً من إجرام الأسد في ظروف كارثية تعيشها الغوطة الشرقية من حصار وانعدام لكل شروط الحياة وافتقار شديد في المواد الغذائية وارتفاع جنوني للأسعار وانعدام لتوفر مأوى حتى للسكان الأصليين بعدما أصبحت بيوتهم حطاماً تحمل الرياح مع نسماتها رحيق أحلام من كانوا داخلها.
يقول أبو سالم “تركت منزلي في بلدة أوتايا برفقة أبنائي الخمسة وزوجاتهم وأحفادي ولم نحمل معنا إلا ثيابنا التي نلبسها وتركنا مواشينا وأرضنا المزروعة قمحاً ولا نعلم إن كنا سنعود إليها أم لا بعدما أبلغنا أحد عناصر الدفاع المدني باخلاء المنطقة، وصلت إلى مسرابا لكن لم أجد أي مأوى في حين أن الاقبية أصبحت مستقراً لأهل الأبنية المأهولة وجيرانهم نظراً لقلتها في تلك البلدة، فتوجهت مع أسرتي برفقة أرتال من أبناء بلدتنا نحو مدينة دوما تحت وابل من القذائف والحمم الصاروخية وبين غبار القصف ورائحة الموت لا ترى في وجوه الوافدين سوى ابتسامة تفاؤل أننا لن نطيل الغياب عن منازلنا ولن تكون إقامتنا طويلة في محطتنا القادمة”.
يضيف أبو سالم أنه لا يملك في جيبه أي نقود ولم يتذوق الطعام ولا حتى أيّ فرد من أسرته المكونة من 14 شخصاً جلهم من الأطفال منذ ما يزيد عن يومين نظراً لعدم توفر النقود التي حتى إن وجدت لا تتوفر مواد غذائية في المتاجر وإن توفرت ستكون مشابهةً للذهب من حيث السعر!
يسترسل أبو سالم في حديثه وهو ينتقد المؤسسات الاغاثية لانعدام كفائتها بتولي مهامها في اغاثة المتضررين والمنكوبين وتأمين ملاجئ لهم وإغاثة طارئة لا سيما في ظل الوضع الأمني الخطير الذي تعيشه مدن الغوطة الشرقية حيث لا يستطيع الإنسان الخروج من ملجأه للعمل أو تأمين لقمة تسد رمق أطفاله فضلاً عن خسارة الأراضي الزراعية التي كانت توفر لهم الغذاء الأساسي و تؤمن لهم ما يمكنهم طرحه بالأسواق والعيش بثمنه.
زياد وهو الإبن الأوسط لأبي سالم يحدثنا عن إصابته التي تلقاها في قدمه بينما كان يحاول سحب أحد أغنامه عسى أن توفر لهم مصروف أيام قليلة تغنيهم عن سؤال الناس أو المؤسسات الاغاثية واصفاً الحال المزرية التي يعيشها مع عائلته وشعوره بالتطفل على سكان أحد الابنية التي بات قبوها مسكناً لهم ولأسرهم، ويضيف “أنا كلما بيعطي حدا ابني رغيف شعير بنقهر عالقمح اللي عندي بالبيت وعالأرض ما بدنا شي من حدا بدنا نرجع ع أرضنا وغنماتنا يمكن بيكونوا ماتوا جوع أو قصف ونحن هون ع شوي منشحد”.
يصف لنا أنور (35 عام) وهو أحد الوافدين أيضاً إلى أحد الأقبية في دوما معاناته مع البرد ليلاً برفقة أبنائه وزوجته لعدم تمكنهم من الحصول على أغطية كافية، حيث لم يستطيعوا حمل أغطيتهم من منازلهم، فضلاً عن الروائح المنبعثة من حمام القبو لعدم امكانية اخراج الفضلات ونقلها بواسطة قاذورة البناء مع انقطاع التيار الكهربائي وتعطل القاذورة. يقول أنور شاكياً “في كل يوم تذرف زوجتي دموعها على الحال التي نعيشها بين أكثر من 60 شخصاً في مساحة لا تتجاوز 100 متر مربع”.
“المساعدات” التي دخلت مؤخراً برعاية الأمم المتحدة تم إفراغ 70% من المواد الطبية في القافلة قبل دخولها، والتي اضطرت للانسحاب تحت وطأة القصف قبل إفراغ كامل حمولتها ليكون نصيب الفرد المحاصر من تلك المساعدات لا يتجاوز 120 غرام من مادتي الطحين والأرز باعتبار أنها الأكثر كميةً ضمن تلك السلال، يقول أحد أعضاء القافلة وهو من موظفي الأمم المتحدة “ماحدا سأل لا عالغوطة ولا عالثورة الكم الله” فيما اكتفى آخر بقول “لا حول ولا قوة إلا بالله” وبين تلك الكلمات وسابقتها تجد الأهالي غير محبذين لفكرة دخول القوافل بدعوى أنهم سيدخلون لاستطلاع الوضع وإدخال ضباط مخابرات لرؤية ما دمرته أسلحتهم المشؤومة في محاولة للنيل من صمود الغوطة.
Sorry Comments are closed