لا يخفى على أحد أن آلة القتل الأسدية تسببت بالضرر الأكبر على الأطفال، فتركت لديهم آثاراً نفسية لا يسهل محوها، وإصابات جسدية لربما يستحيل الشفاء منها، ولكن الطامة الكبرى أن تركت عدداً كبيراً من الأطفال الأيتام، لكنها لم تقتل روح الثورة فيهم، ولكنها ثورة من نوع آخر ..
فقد غدت الطفولة في سوريا حلماً يُرتجى مناله بالنسبة لأرواح مازالت صغيرة على مجابهة القدر المتربص بآمالهم بحياة طفل طبيعي، ولكنهم جابهوا بكل ما أوتوا من غضب على وحشية النظام الذي سلبهم حقهم في الطفولة ..
دانيا ..ابنة حمص ذات الثلاثة عشر عاماً، مثال حي على طفولة اغتصبها نظام الأسد وحرّمها عليها. كانت البداية مع استشهاد والدها بطريقة أبشع من أن يتمكن عقل طفل من استيعابها، فقد تمت تصفية والدها المصاب بطلقة في الرأس في أحد المشافي من قبل رجال الأسد، مع توقيع على الجثة “الإرهابي محمد”..!
كانت هذه الكلمة تنبض بالغضب في قلب هذه الطفلة التي تودع جثة والدها الطاهرة، جثة الشهيد الذي قُتلت بموته طفولتها..
تعيش دانيا اليوم مع جدتها المسنة وإخوتها الخمسة الصغار، فقد تركت لعب الطفولة وانتقلت إلى مسؤولية الأم بعد استشهاد عمتها التي كانت ترعاهم بطلقة قناص.
وبدأت هذه الطفلة بممارسة مهام الأم، من رعاية بما في ذلك الطهو والغسيل ومتابعة الواجبات المدرسية، بالإضافة إلى منح الحنان الذي فقدته إلى إخوتها الصغار في محاولة لتغطية ما ينقصهم من مستلزمات في ظروف إنسانية صعبة يعيشونها.
تحدثت “دانيا” عن السيناريو اليومي الذي تعيشه: “أستيقظ باكراً لتوضيب المنزل وتحضير الفطور لإخوتي وتجهيز أغراضهم للذهاب للمدرسة، فأغسل لهم وجوههم وأنظف ثيابهم وأرتبها، وأستغل وجودهم في المدرسة لأذهب للتسوق وأتابع توضيب المنزل وتحضير الغداء قبل ذهابي للمدرسة. وعندما أعود أبدأ بتدريسهم وواحداً واحداً وأعلمهم قدر استطاعتي. وفي المساء أقوم بتجهيز فراشهم للنوم، ثم ألتفت إلى واجباتي المدرسية”.
لكن الحزن والقهر المرتسمين على وجه دانيا كانا أوضح وأعلى من صوت الأم داخلها، يحملان حسرة على حياة مثالية تسربت من بين أصابعها بمجرد فقدانها لوالدها الذي كان على حد قولها : “دائماً يميزني عن إخوتي بالهدايا والاهتمام، وكنت طفلته المدللة. كان أبي حنون القلب، ولا أستطيع لليوم أن أتخيل أنه قُتل لأنه هرب من الصواريخ والطائرات التي كان يقصفنا النظام بها..!”
وبرغم أن قلب هذه الصغيرة محمّل بالحزن، إلا أن الاستسلام لم يعرف إلى قلبها طريقاً. وفي محاولة هذه الطفلة لتعويض ما فات إخوتها الصغار من حنان حرّمت على نفسها تخصيص أي شيء لنفسها دون إخوتها، باتت تعيش تضحية الأب والأم في سبيل أطفالهما في عمر أصغر من أن يتحمل مسؤولية كهذه.
وفي مواجهة ظروف الحياة الصعبة التي هي أقسى من أن يواجهها طفل، تقول معلمة دانيا في المدرسة: “دانيا أحد أهم الطالبات المتفوقات لدي، وتسعى دائماً لأن تكون سبّاقة في المشاركة. لكن ما هي إلا لحظات حتى تغيب دانيا في مخيلتها لعالم آخر وتنفصل عنا كأنثى مسنة التهم الهم قلبها..! “.
دانيا .. أحد الأطفال ممن دفعوا فاتورة الحرية ومازالوا صامدين، اعتدنا أن نسمع قصصاً عظيمة عن صمود شعبنا السوري، لكن المدهش حقاً هو تحدي الأطفال وكأن الدم السوري يحمل جينات التحدي والصمود في سبيل نيل الحرية.
دانيا ليست ضحية بل هي بطلة كبيرة، تجاهد مقابل ظروف الحياة الصعبة التي يمكن أن يعجز عنها الكبار أحياناً ..!
لطالما كان الأمل متجلياً بالأطفال، وشعب لديه أطفال مناضلون كدانيا من الصعب أن يُهزم ..
عذراً التعليقات مغلقة