في المقالة الأخيرة من سلسلة مقالات حكاية سوريا، “طائفة الثورة” أوضحت مفهومي للثورة السورية ولمن ينتمي إليها، وهذا الإيضاح هو القاعدة التي سأنطلق منها في مقالي اليوم.
أعتقد في البداية أنه من المفيد إعادة التذكير بأن الثورة السورية خرجت لأجل إسقاط هذا النظام المجرم المستبد القاتل لشعبه الناهب لخيرات البلد، وإقامة نظام ديمقراطي تعددي يستند إلى المواطنة ويحترم حقوق الإنسان، ويلغي أي قيمة أخرى دون قيمة المواطنة، كالطائفة والدين والمذهب والقومية والعشائرية والمناطقية و… . فالثورة السورية لم تخرج انتقاماً من شخص أو حتى نظام، لم تخرج لإسقاط مستبد وإحلال مستبد آخر مهما كان الشعار الذي يرفعه الآخر، سواء أكان يرفع شعار الحاكمية لله أو تعويضاً لظلم مورس على فئة من الناس “قومية أو مذهبية أو …” أو … .
أيضاً من المفيد التذكير أن كل مؤسسات المعارضة التي أنتجتها الثورة فشلت، وأورثت الفشل تلو الفشل للمؤسسات التي أنتجت بعدها، وأوضحت في مقالة سابقة تركيبة المؤسسات المعارضة قبل الثورة وأوضحت أيضاً أسباب الأزمات التي عانت منها هذه المؤسسات وأسباب فشلها بعد انطلاقة الثورة، ولولا صمود الشعب السوري وتضحياته الهائلة، لانتهت الثورة السورية منذ زمن طويل.
يمكن أن نشاهد هذا الصمود في حالة الغوطة الشرقية مؤخراً، حيث أدى الصمود الهائل رغم كل التضحيات المؤلمة التي حصلت لما يمكن أن نسميه ما بعد الغوطة، فقد أسست لحالة نوعية جديدة في الثورة السورية، يجب الاستفادة منها، ويجب أن نراكم فوق هذه التجربة لنحقق النتائج التي نرجوها.
فكل التضحيات التي قدمها أبناء الشعب السوري عامة، وكل التضحيات التي قدمها أبناء الغوطة، ما كانت لتثمر لو أنهم تخاذلوا، وطلبوا الباصات الخضراء، فصمودهم حرك الرأي العام والصحافة في أوروبا، وأجبر المجتمع الدولي وأجبر روسيا على الانصياع لإيقاف مسار الحل العسكري الذي اتبعته، والقبول بالهدنة، والتي إن ثبتت فيمكن أن نقول أننا أمام ستالينغراد أخرى.
في ستالينغراد كانت قوة الجيش النازي الألماني تتفوق بشكل هائل على المستوى العددي والتقني على قوة الجيش السوفيتي، لكن صمود السكان في المدينة أضعف القوة المهاجمة التي اعتادت على النصر السريع عبر قوة باطشة تخضع بها أعداءها، فكانت نقطة تحول في مسار الحرب العالمية الثانية، أدت فيما بعد للانتقال من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم، وأدت إلى هزيمة النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية بعد ذلك.
في الغوطة تفوقت قوات العدو الروسي وأتباعه من مليشيات ايرانية وقوات نظام الأسد ومليشياته بشكل هائل على المقاومة الموجودة في جيب صغير محاصر منهك منذ خمس سنوات، حيث صبت كل آلة بطشها بشكل لم نعهد له مثيل، ونفذت المجازر الرهيبة وقصفت البنية التحتية وخصوصاً المشافي والمستوصفات ومراكز الدفاع المدني وسيارات الإسعاف و…، لكن شيئاً واحداً لم تستطع أن تفعله هذه القوة الغاشمة، وهو النيل من إرادة وعزيمة وصمود الأهالي، ورفضهم الخروج من الغوطة، أي رفضهم النتائج المترتبة على سياسة الحل العسكري التي تبناها نظام الأسد منذ المظاهرة الأولى ثم تابع فيها وبشكل مجرم الاحتلال الروسي، فكان أن تحركت الصحافة العالمية، وتحرك المجتمع الدولي، وأُسقط في يد روسيا ولن تستطيع المضي قدماً في حلها العسكري إن أتممنا بهذه الطريقة.
النجاح الذي حققه صمود أهالي الغوطة وإدارتهم للمعركة الإعلامية بشكل جيد، سيكون علامة فارقة في تاريخ المنطقة إن أحسن إدارة الملف.
فمن المؤكد أن نظام الأسد والاحتلال الروسي والإيراني لن يلتزموا بقرار الهدنة وسيبحثون عن حجج وذرائع للاستمرار بالقصف والعودة للحل العسكري، وهذا ما يجب أن ننتبه له، وكان جميلاً أن خرجت البيانات من القوى العسكرية الرئيسية في الغوطة، والتي تبنت قرار مجلس الأمن ووافقت على الهدنة، لكن سيكون هذا أجمل إن أخرجنا أصحاب الرايات السود من بيننا، وسيكون جميلاً أكثر إن استطعنا ضبط عملاء الأسد المتخفين بيننا والذين سيسعون جاهدين لخرق الهدنة، وسيكون جميلاً أيضاً إن توحدت القوى العسكرية والسياسية والمدنية في الغوطة مع باقي القوى السياسية السورية، عبر مؤتمر وطني عام يشمل الجميع يضع الخطط والبرامج وينتخب القيادة التي ستدير الملف كاملاً.
حين كان الوفد السوري يفاوض فرنسا على الاستقلال، كانت جميع القوى السياسية والعسكرية الرافضة للإحتلال الفرنسي متماسكة، وكانت كلمة واحدة من الوفد كفيلة بإشعال سوريا من أقصى الشمال لأقصى الجنوب، وما الإضراب الستيني ببعيد عنا.
كل هذا يدفعنا للعودة للأساس الذي ابتدأت به، فأصحاب المصلحة الحقيقية بنجاح الثورة يجب أن يعلنوا عن أنفسهم بوضوح ويجب عزل وإبعاد عملاء الثورة المضادة والمتسلقين، والذين يتخفون تحت شعارات الثورة كذباً وزوراً وبهتاناً، وفضح هؤلاء المنافقين أو عملاء الأسد أو الثورة المضادة لن يتحقق دون العودة بشكل واضح وصريح للتوحد حول أهداف الثورة السورية في الحرية من النظام المستبد والانتقال لنظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان، ويعلي من قيمة المواطنة، ويلغي أي قيمة أخرى دون قيمة المواطنة. وهذا لن يتحقق في ظل وجود الإقطاع السياسي المنتفع من هذه الحالة الهلامية، حيث لا يوجد تمثيل حقيقي للثورة، وهذا يتطلب من أبناء الثورة التجمع في تنظيمات سياسية، تعلن بوضوح، وبما لا يدع مجالاً للشك، أنهم منتمون لهذه الثورة العظيمة، وأهدافها في التخلص من النظام المستبد، والانتقال لنظام ديمقراطي تعددي، ومن ثم تجمع هذه التنظيمات لتشكل جسماً تمثيلياً حقيقياً للثورة السورية، يدير المعركة مع هذه القوى المختلفة التي تنهش بسوريا وتقتل شعبها.
Sorry Comments are closed