ما عادت القضية الفلسطينية بمثابة القضية المركزية في العالم العربي، فضلاً عن أن هذا الادّعاء يبيّن توظيفات ومبالغات وتلاعبات سياسية أضرّت بالفلسطينيين وبحركتهم الوطنية وبقضيّتهم. فوق ذلك، فإن الفلسطينيين اليوم، على ضعف مواردهم وتشتّت مجتمعاتهم وترهّل كياناتهم السياسية، باتوا مكشوفين ووحيدين، في المعطيات الدولية والإقليمية والعربية الراهنة، في مواجهة إسرائيل، التي أضحت متحكّمة بمصيرهم، أكثر بكثير من ذي قبل.
إزاء هذا الوضع الصعب، تبدو مشكلة الفلسطينيين في أن كياناتهم السياسية ما زالت مصرّة على التصرّف على أساس إنكار هذه الحقائق، وكأن شيئاً لم يتغيّر عندهم وفي عموم المنطقة. هكذا فالقيادة الرسمية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و «فتح»، ما زالت تعتقد بصوابية وجدوى ما ترى أنه مشروعها الوطني، المتمثل بإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، على رغم مرور أكثر من أربعة عقود على هذا الخيار، وأكثر من عقدين على قيام السلطة وفق اتفاق أوسلو (1993)، وعلى رغم تقويض إسرائيل لهذا الخيار عبر تفشي الأنشطة الاستيطانية وبناء الجدار الفاصل وتكريس التبعية الاقتصادية وواقع الهيمنة الأمنية. في المقابل، ثمة حركة «حماس»، التي تتحكم كسلطة في قطاع غزة، والتي ما زالت تعتقد بأنها قادرة على تغيير هذه المعادلات، بجعل غزة قاعدة لتحرير فلسطين أو أقله لدحر الاحتلال من الضفة، كأنها لم تستنتج الدروس اللازمة من ثلاث حروب مدمرة شنّتها إسرائيل على القطاع، ولا من العبر الناجمة عن الخراب الحاصل في مجتمعات المشرق العربي من العراق إلى لبنان مروراً بسورية، ناهيك بعدم قدرتها على فك الحصار عن قطاع غزة، أو حتى تقليل اعتماده على إسرائيل.
وبكل صراحة فإن الفلسطينيين، في وضعهم هذا، باتوا يفتقدون لأي مشروع وطني جدي، أو ذي أفق مستقبلي، بل إنهم حتى لو امتلكوا مثل هذا المشروع، بغض النظر عن مستواه أو طبيعته، فإنهم لا يملكون القدرات والإمكانيات والمعطيات المواتية لفرضه على إسرائيل، أو على أرض الواقع.
الآن إذا كان خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع في حالة موت، في المدى المنظور، بحكم تعنّت إسرائيل ومساندة الولايات المتحدة لها، وإذا كانت القيادة الفلسطينية عاجزة عن تغيير المعادلات السياسية أو عاجزة عن تحرير إرادتها لطرح خيارات جديدة، فإن الخيارات الباقية، من الناحية الواقعية أو العملية، لا تلبّي الحد الأدنى من مطلب الفلسطينيين، فضلاً عن أنها لا تتعامل مع قضيتهم بطريقة شمولية، وهي لا تتأسس على قواعد الحق والعدالة والحقيقة ولو من الناحية النسبية.
وقد برز من بين هذه الخيارات مؤخّراً «الخيار الأردني»، وهو خيار قديم جديد، وبالنسبة للإسرائيليين فإن هذا الخيار لا يتضمن الاعتراف بكيانية سيادية للفلسطينيين، وإنما هو يتضمن مجرد انسحاب إسرائيلي جزئي من المناطق الفلسطينية الكثيفة السكان، وتركها للسيادة الأردنية، وتالياً ترك الفلسطينيين لتدبّر أنفسهم مع الأردن. وفي هذا الإطار، يمكن الإحالة على مقالة المحلل الإسرائيلي سيفر بلوتسكر، وعنوانها: «الخيار الأردني… الحل الوحيد الممكن للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي» («يديعوت أحرونوت»، 28/4/2016).
في المقابل وبالنسبة إلى الفلسطينيين، الذين يجرى التداول في بعض أوساطهم السياسية بهذا الأمر، فإن «الخيار الأردني» يتأسس على اتحاد كونفدرالي بين كيانين سياديين ومستقلين، أي الدولة الفلسطينية والدولة الأردنية، على رغم الفارق الطبيعي في السيادة بين هذين الطرفين. وأصحاب هذا الطرح يبررون استعادته بانسداد أفق الدولة المستقلة، ومحاولة إحراج إسرائيل والمجتمع الدولي لإيجاد مخرج لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة. ومشكلة الطرح الفلسطيني (الذي يعتبر ساري نسيبة من أهم دعاته) أنه يتجاوز طبيعة النظامين، إذ إن النظام في الأردن ملكي، في حين أن النظام الفلسطيني المفترض هو جمهوري ويخضع لتداول السلطة والانتخابات الديموقراطية، الرئاسية والنيابية، ما يعني أننا إزاء نظامين سياسيين مختلفين تماماً.
وفي الواقع فإن هذا الطرح يثير، أيضاً، التساؤل عن سبب الذهاب نحو «الخيار الأردني»، مجدداً، وكأن صراع الفلسطينيين مع الإسرائيليين يتوقف على الأرض/ الجغرافيا، أو على قطعة أرض هنا او هناك، وكأنه لا يفترض حقوقاً سياسية للمواطنين، ناهيك بأن ذلك يتضمن التخلي بداهة عن الرواية الوطنية الفلسطينية، وعن وحدة الفلسطينيين، أو عن معنى كونهم شعباً.
في مساجلة هذا الطرح ربما من الأجدى، والأصوب، الذهاب نحو خيار آخر يتعلق بالنضال من أجل تعزيز حقوق المواطنة في كل فلسطين/ إسرائيل، بما لا يخل بوحدة أرض فلسطين ولا بوحدة شعبها. فضلاً عن كل ذلك، فإن الفلسطينيين يفترض أن يكونوا الأكثر حرصاً على تعزيز مشكلة إسرائيل المتعلقة بالأراضي المحتلة، وبالفلسطينيين، لا مساعدتها على تجاوز هذه المشكلة على حساب شعب فلسطين وحقوقهم. والفكرة هنا أن أي حل أو خيار بالنسبة للفلسطينيين من الأنسب أن يفتح مساراً مستقبلياً يؤدي، وفق تطورات سياسية واجتماعية، إلى حل الدولة الواحدة الديموقراطية، أي دولة المواطنين، حتى لو مرت بتعرجات، من ضمنها قيام دولة مواطنين ذات طابع ثنائي «القومية» وعلى أسس ديموقراطية.
وبالطبع فنحن إذ نتحدث عن هذه الخيارات، نأخذ في الاعتبار أن هذه التصورات هي مجرد طروحات نظرية، وتصلح كعناوين لمشاريع نضالية، للتعبئة حولها، للحفاظ على وحدة الأرض والشعب والرؤى، ولطرح شعارات ذات معنى في إدراكات الرأي العام العالمي، لأنها لا يمكن أن تطرح في الإطارات التفاوضية الراهنة، ولأن الوقائع والمعطيات وموازين القوى هي التي تفرض أشكال الحلول، أو هي التي تفرض الخيارات الممكنة.
في هذا الإطار، يمكن الحديث عن خيار كونفيديرالي آخر، بين إسرائيل والأردن والفلسطينيين، ذي طابع سياسي – اقتصادي، أو اقتصادي فقط، وفق أوري سافير مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية الأسبق، الذي رأس الجانب الإسرائيلي في المفاوضات السرية التي قادت للتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993، والذي يعتبر أن التحولات الجيوسياسية في المنطقة والتي ستسمح بأن تحظى مثل هذه الخطوة بدعم «المحور السني المعتدل»، في العالم العربي. وهي فكرة كان طرحها سابقاً القائد الفتحاوي خالد الحسن، وتشبه نموذج دول «البينيلوكس» (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ). وعلى أساس ذلك يمكن إقامة منطقة تجارة حرة وتعاون في مجال الطاقة وتحلية المياه، ومشاريع سياحية مشتركة لا سيما في منطقة البحر الميت، وتدشين خطوط مواصلات بين الأردن حتى ميناء حيفا، وترتيبات أمنية ثنائية ومخططات مشتركة لمواجهة «الإرهاب»، وحل قضيتي اللاجئين والقدس. («هآرتس»، 5/9/2014)
ما يمكن لفت الانتباه إليه أن الترويج لهذه الطروحات يأتي في وقت تسعى فيه الأوساط اليمينية في إسرائيل لاتخاذ خطوات ترمي إلى تشريع ضم الضفة الغربية في شكل قانوني، ولو تدريجياً، بداية من خلال تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنين. ومعلوم أن الضفة اليوم هي في حالة ضم فعلي، فثمة حالة من هيمنة إسرائيلية على الأرض والسكان والموارد، وفي كل ما يتعلق بأنشطة الفلسطينيين، وتعتبر ايليت شاكيد وزيرة العدل الإسرائيلية من أبرز دعاة هذا الخيار، الذي يطرح في إطار محاولة إسرائيل استغلال انهيار أوضاع الدول العربية المجاورة واختفاء ما يسمى «الجبهة الشرقية».
وبديهي ألا يستثني ذلك غزة، التي يتمّ التلويج بإقامة ميناء فيها، وفق شروط معينة، وتحويلها إلى مكان يزخر بمشاريع البناء والتنمية وإيجاد فرص عمل، بالتعاون بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
هذه هي الخيارات المطروحة إسرائيلياً على الفلسطينيين، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة، وفي ظروف استهلاك حركتهم الوطنية، وتآكل أحوالهم كشعب، وفي ظروف تدهور أحوال العالم العربي، لا سيما المشرق منه.
* نقلاً عن “الحياة”
عذراً التعليقات مغلقة