أم الزهور..

فريق التحرير15 فبراير 2018آخر تحديث :
وليد أبو همام
تعبيرية – لوحة للفنانة البريطانية إيما ليون بالمر

لم تكن امرأة استثنائية.. ولكن كحال آلاف النساء في سوريا أجبرت أن تكون امرأة استثنائية وأماً استثنائية وأختاً استثنائية وزوجةً استثنائية.. ربما تكون قصتها واحدة من مئات القصص التي نسجتها أصابع الأيام في الثورة السورية.

بعد زواجها بعدة أشهر في السنين الأولى للثورة كانت على موعد مع الفرح وآخر مع الحزن.. فكانت فرحتها لا توصف عندما بُشّرت بأنها تحمل توأماً.. لكن هذا الفرح لم يدم طويلاً حتى أتاها خبر اختطاف زوجها على طريق السلمية.. فلم يكن حزنها بأقل من فرحها.. إلا أنها احتفظت بأمل صغير بأن ترى زوجها ثانية.. لم تترك وسيلة ولا باباً إلا وطرقته في سبيل معرفة حال زوجها.. وشاء الله أن تقع تحت رحمة أحد الأشخاص كان يدعي بأنه قادر على إرجاع زوجها.

بدأ هذا الشخص باستجرار أموالها دفعة بعد أخرى حتى وجدت نفسها قد دفعت مليوني ليرة دون أن يأتيها خبر يشفي صدرها ويسكت تلك التخيلات في رأسها.

كانت ولادتها بذلك التوأم الخيط الذي أعاد لها حبها للحياة.. رزقت بطفلتين لم يكتب لهما رؤية أبيهما.. ولكنها كانت كل شيء لهما وكانتا كل شيء لها.. كان يعزيها أن خطف زوجها كان أكبر المصائب حسب ظنها.. ولم يأت ببالها أن ما تخفيه لها الأيام أدهى وأمرّ.

كحال كل القرى التي أعلنت رفضها لحكم الأسد كان لقرية “عز الدين” نصيب كبير من الهدم والقتل.. ذلك اليوم سالت فيه دماء كثيرة، حيث ألقت إحدى الطائرات براميل الموت على القرية فصادف أن يسقط أحدها بالقرب من بيت أهل “إنصاف” حيث كانوا يتوجهون إلى الملجأ.. كانت تحمل إحدى بناتها وأختها تحمل الأخرى فطارت ابنتها من يديها وسقطت هي على الأرض، وعندما أفاقت من الصدمة وجدت نفسها في المشفى..

كان أول همها معرفة مصير ابنتيها فقالوا لها بأنهما لم يصابا بأذى فحمدت الله.. لتأتيها بعد ذلك الصدمة الكبرى.. لقد بترت قدمها واستشهد أخوها وأختها.. لم يكن سهلاً سماع كلّ هذا دفعة واحدة ولكن كان لابد لها أن تعرف.. هذا المصاب كان كفيلاً بأن ينسيها مصابها الأول بفقدها زوجها.

بدأت رحلتها مع العذاب الجسدي والنفسي.. فقدمها المبتورة والمليئة بالجروح أجبرتها على ملازمة الفراش.. ومع ضعف الإمكانيات للعلاج ازداد ألمها وطالت فترة رقودها في الفراش لأكثر من شهرين.. لم يتوقف العذاب الذي أصابها عند هذا الحد وربما يكون كل ما أصابها لا يعادل يوماً من حرمانها لحقّها في الأمومة. فأهل زوجها المقيمين في لبنان أرسلوا إليها لأخذ بناتها بحجة أنهم الأحق بتربيتهما.. رفضت ذلك فما كان منهم إلا أن أرسلوا إحدى بناتهم لتقوم بانتزاع ما تبقى لهذه المرأة من حقوق.. وفعلاً استطاعت العمّة أن تأخذ البنتين وتسافر إلى لبنان تاركة أمهما عبارة عن شبه إنسان تختلط فيه مشاعر الزوجة والأخت والأم دون أن تجد من يبادلها هذه المشاعر..

بعد كل ما حصل لإنصاف.. استسلمت لليأس؛ فلم تعد تملك أياً من مقومات الحياة.. إلا أن في داخلها عاطفة أكبر من كل مصائب الدنيا.

منذ عدة شهور اقتنعت بأن تذهب إلى لبنان لعلاج قدمها.. وربما لم يكن علاجها أهم من أن تمارس حقها في الأمومة.. فلعلّها تجد سبيلاً لرؤية زهرتيها وتستعيد قليلاً من حقها المسلوب.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل