في يومك الأول في الجيش العربي السوري سيزورك ضابط التوجيه السياسي، ولن تجد وقتاً لتسأل نفسك: ما علاقة الجيش بالسياسة؟ إذ ستكون مشغولاً بأمور أهم؛ خيمتك الممزقة، حذاؤك العسكري الصغير على قدمك، البقعة البنية على الفراش المسلّم لك، قطعة الحلاوة التي عجزت مع زملائك عن تقطيعها على الفطور، وغيرها كثير.
المهم، سيحدّثك هذا الرجل النظيف المرتب، أن الجيش هو بيتك الثاني، وفيه ستتعلم الخبرة الحياتية الحقيقية، بعيداً عن مدرستك وجامعتك التي لم تعلمك إلا الهراء.
سيحدّثك، أن الجيش هو الشوكة التي تقف في حلق إسرائيل وتمنعها من ابتلاع المنطقة كلها، وربما العالم، وفي معرض حديثه سيقول لك: نحن جيش عقائدي!
عقائدي؟
نعم عقائدي، فجميع عناصره سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين ابن طائفة وأخرى، والجميع يعمل لرفع رسالة الأمة العربية الخالدة عالياً. ولن تعرف بالطبع ما هي هذه الرسالة، الحزب نفسه لا يعرف ما هي هذه الرسالة، ولكنه يناضل في سبيل تحقيقها منذ زمن طويل.
بعد أن يخرج ضابط التوجيه السياسي؛ سيدخل عليك بعض ضباط الصف. سيقولون: “مين هون ضيعة”؟ لن تفهم بالطبع هذه العبارة، فأنت لم تأخذها في المدرسة أو الجامعة التي لم تلقنك إلا الهراء. ولكن حيرتك لن تدوم طويلاً، فبعد لحظات ستكتشف من الإجابات، أن السؤال كان: من منكم علوي؟
شيئاً فشيئاً سيتخلّص “أولاد الضيعة” من كلمة “سيدي” عند مخاطبة المدربين، وستلتزم بها أنت ما حييت، حتى بعد مغادرة الجيش، ستقولها لمديرك في العمل وللموظف ولرجل الأمن ولشيخ الجامع ولزوجتك ولعامل التنظيفات.
ستكتشف بعد أيام أن “أولاد الضيعة” يتم استدعاؤهم جماعياً بشكل مريب عبر مكبر الصوت قبل أن تبدأ العقوبة الجماعية بخمس دقائق ولن يعودوا إلا بعد انتهائها. وستكتشف أيضاً أن “أولاد الضيعة” يخرجون من القطعة العسكرية شديدة الحراسة ليحتفلوا بليلة رأس السنة مع أهلهم أو حبيباتهم، وستنال أنت عقوبة طوال الليلة المشهودة لأنك تسترت على هرب زملائك! وسيقسم لك الضابط المسؤول أنه سيسلخ جلودهم عندما سيعودون، وإذا عادوا سيتم استدعاؤهم مجدداً ويُسلخ جلدك وحدك.
ستكتشف أيضاً أن “أولاد الضيعة” يُفرَزون بعد الأشهر الأولى من التدريب إلى قطع عسكرية في قلب المدن وغالباً في قلب مدنهم نفسها، في حين سيتم فرزك إلى مكان ما في قلب الصحراء أو رؤوس الجبال، وفي طريق ذهابك إلى قطعتك الجديدة ستسأل الناس عنها، فيقولون لك: هذه في سورية؟
كل هذه الاكتشافات وغيرها اكتشفها مؤيد، ابن محافظة إدلب وهو يؤدي الخدمة الإلزامية في الجيش العقائدي.
كان مؤيد تسلية يومية للنقيب حيدر، عقوبة بعد الاجتماع الصباحي، وأخرى بعد الاجتماع المسائي، ناهيك عن عشرات الشتائم اليومية. وعلى هذا المنوال، قضى مؤيد عاماً كاملاً، ولكن كذبة بيضاء ألقاها ذات يوم غيرت أحواله مئة وثمانين درجة.
كان مؤيد ينظّف ثيابه من مياه الجاموقة التي أرغمه النقيب حيدر على النزول فيها، والجاموقة -لمن لا يعلم- اختراع مُسجّل باسم الجيش العقائدي، هي حفرة في الأرض مملوءة بالمياه الآسنة وبقايا الأكل والفضلات ورائحتها تشبه رائحة الرسالة الخالدة للحزب العظيم.
في تلك اللحظة مر به زميله وكان “ضيعة” فقال له مؤيد: كيفك ضيعة؟
اقترب الشاب منه وسأله مستغرباً: ألست من إدلب؟ كيف أصبحت ضيعة؟
وتمادياً في العبث قال مؤيد: أبي من إدلب، ولكن أمي من ريف جبلة، من بيت ياشوط. فقال الشاب: ولك كر، أنت من دجاجاتنا!
بعد دقائق قليلة، كان مكبّر الصوت يطلب من مؤيد التوجّه إلى غرفة النقيب حيدر فوراً. استعد مؤيد نفسياً للغوص في الجاموقة مجدداً، وذهب. أدّى التحية العسكرية لحيدر قائلاً: المجند مؤيد جاهز للعقوبة سيدي.
ولكن في تلك اللحظة، لم يكن حيدر غاضباً مقطب الجبين كحاله منذ ولادته، بل كان مبتسماً، وفي ابتسامته رأى مؤيد وجه أمه وأبيه وحبيبته وكل ما هو جميل في هذه الدنيا!
قال حيدر: يا كر، لماذا لم تقل إنك من دجاجاتنا؟
ابتلع القط لسان مؤيد، فإذا اعترف أنه كان يعبث مع زميله، سيصبح مُروِّجاً للطائفية، وعدواً للجيش العقائدي. ولن يعرف أهله طريقاً له. فقال: سيدي ما توقعت أن للموضوع أهمية!
فقال حيدر: يا كر كيف ما له أهمية؟ تعال تعال اشرب معي متة!
في تلك الليلة، أصبح مؤيد “ضيعة” وسهر مع حيدر وتحدثا وضحكا حتى وقت متأخر واعتذر منه حيدر عن العقوبات، لأنه ما كان يعرف أنه “ضيعة”، وفي الصباح سلّمه ورقة بنقله إلى أقرب نقطة عسكرية إلى المدينة، سيكون هو الأعلى رتبة فيها، ولن يسأله أحد عن حضوره أو غيابه، أي فيَّشه! والتفييش بلغة الجيش العقائدي هو أن تقضي مدة عسكريتك كما تشاء وحيث تشاء؛ سواء في بيت أهلك أم في مدرجات الجامعة، أم في المقاصف والملاهي. وابن الضيعة يُفيَّش اعتماداً على اسم الضيعة، أما من تبقى من العساكر، فيفيشون اعتماداً على ما في جيوب أهلهم من مال. وإن كان العسكري فقيراً، فعليه أن يستمر بالصمود في وجه إسرائيل ورفع رسالة الأمة العربية الخالدة عالياً.
فيّش مؤيد نصف عسكريته تماماً، سنة كاملة لم يسأله أحد، أين أنت أو أين ذهبت أو من أين أتيت؟ حتى أنه تلبّس الحالة وراح يكره أولئك الذين ولدتهم أمهاتهم دون أن يكونوا “أولاد ضيعة”!
وفي نهاية خدمته العسكرية وبعد أن حصل على جميع التواقيع اللازمة للتسريح واستلم هويته المدنية، مر بحيدر وقال له: أوصنا سيدي. فقال حيدر: سلم على بيت ياشوط. فقال مؤيد: ياشوط مين سيدي، أمي ابنة عم أبي إدلبية لا ياشوط ولا غيره سيدي!
وبعيون تحدق بالفراغ، وفم نصف مفتوح من هول الصدمة، ترك مؤيد النقيب حيدر والجيش العقائدي، بعد أن نهل لعامين من معارفَ وخبراتٍ لن يجدها أحد في مدرسة أو جامعة!
Sorry Comments are closed