أنتَ لم تعد أنت.. هذا ما يبدو عليه الأمر في البداية، حتى تعي تماماً أن تلك البداية كانت خاتمة لمرحلة ضخمة في حياتك.
حسناً من أول السطر الذي لم ينتهِ رغم كل هذه الأيام التي مرت، يرقد شبح الكوابيس مجدداً فوق رأسي، ويلقي بظله الفارغ تحت عيني، أبتسم لحلاوة الأمر بعد أن اعتدته، أحدهم أخبرني أن عيون الباندا هذه جميلة للغاية، “التعب اللذيذ” كما تقول قرينتي..
البؤرة التي تفتح عينك فيها سوداء للغاية، عفن ربما، أو تراكم لخيبات وانكسارات وراحلين وخاذلين وجثث كثيرة إحداها تخص حبيبك الذي يهرب كل ليلة إلى زاوية النسيان فيكِ وتعيدينه حياً.. وضجيج وعزلة وهرب إلخ….
خوف يسيطر عليك، هذا بالذات هو الاكتمال الوحيد الذي منحتك إياه “أزمة” بلادك كما يريدون لها أن تُسمى، والتي تُصر أن تعاندهم قائلاً أن “ثورتك” المقدسة كسرت ميزان الخوف ذلك فيك.. تتساءل علقة الإصبع الجالسة في صدرك، “لحظة عن أي خوف تتحدث؟ أقصد أي ثورة؟”
تداخلت المفاهيم تماماً، يحلو للبعض اليوم تسميتها بالاسم الأكثر شيوعاً والأكثر منطقية، “الحرب” لا نرجع لخلفياتها ولا لمسبباتها ولا لأي شيء يمت بصلة حقيقية معها، هي حرب وحسب، حرب تبتلع أخضر البلاد ويابسها وتنهش في طريقها أحلامك وعمرك وأصدقاءك، وهنا علينا أن نعود لمنطق الخوف الذي تزرعه داخلك بتأني..
لا أذكر أنني خفت هناك، أقصد عندما كنت في سوريا، كان الأمر سوريالياً بطريقة غريبة، كانت ضحكاتنا تتسابق مع أصوات القذائف لتغلبها، كنا نمارس كل الجنون تحت زخات رصاص القناص المجنون، آخر ليلة قضيتها في منزلي وكان الطيران يحلق فوقنا كذبابة ثقيلة الظل تزعجك بزنها ولا تستطيع ضربها بيدك لتخرس، حملنا الدف حينها وأصبحنا ننشد ونهتف ونغني حتى منتصف الليل. لم أكن أدرك أن الخوف كان طفلاً صغيراً داخلي لم يكبر بعد، طفلاً أحب اللعب مع الحجارة المؤذية في الحارة، ولم تردعه ضربات أمه المتكررة على يده، لم أكن أخاف، أو ربما كنت أبلغ من التحدي والحقد ما يجعلني أكره أن أُكسر هناك، أو عندما كنت هناك..
في الفترة الأخيرة تماماً بدأت أرى نضوج الطفل ذاك جيداً، بدأت أشعر به يمسك بيدي كلما أقدمت على تصرف مجنون، أصبحت أحس بتوسلاته لي ممسكاً بطرف فستاني القديم جداً ليجعلني أغير رأياً أعمل عليه منذ أيام، لقد أصبح ذلك الخوّاف الشبح الذي يؤرق ليلي، وصرت أنا المنزوية في طرف هذا العالم أراقب كل ما يخصني خاضعاً لسلطته هو، خوفي الناضج!
العالم الذي كان ملعباً صغيراً بالنسبة لي، “ما بينخاف عليك، وين ما زتيناك بتجي واقفة، قدها وقدود، قوية وأخت رجال” كل تلك الألقاب أصبحت عبارة فقط عن خلفية صوتية في عقلي التائه جداً، تكرر نفسها كلما تقدمت لأفعل شيئاً وتراجعت مترددة عنه.
“ربما لم أعد كذلك!”.. صحيح يقولون أني عندما أنخرط بالحديث عن سوريا تلمع عيناي جداً وأن “عيوني بتحكي وقتها” هذا الأمر يربت على كتفي أحياناً كي أقنع أن هناك شيئاً مني بقي صامداً ولم يتغير بعد. صديقتي التقطت لي خلسة صورة أثناء حوار ما، لم أعرفني فيها.. بقيت شاردة وقتاً طويلاً. ربما لم تُضعني الحرب كما يقولون، قد تكون الغربة أو هذه البلاد، أو ربما أضاعتني تلك الانخراطات النفسية التي جعلتني متيبسة هناك وقتاً طويلاً، قبل أن أدرك تماماً أن الطائرات التي تحلق فوق رأسنا هنا، طائرات مسالمة أي أنها لا تنتمي لسرب العدو ولن تمطرنا بالموت، وأن الأصوات التي تفزعني كل فترة ما هي إلا “طق فتيش” وألعاب نارية للتسلية، وأن الوهم الذي يعشعش في قلوبنا ما هو إلا ذاكرة رفضت أن تخرج من حدود تلك البلاد اليوم..
“ألم تنتهوا بعد؟ ما جدوى كل الذي فعلتموه إلا دماراً وتشرداً وموتاً لاحقكم وأنتم شرذمات هنا وهناك!”
تسألني إحداهن، أجيبها مبتسمة: “مو نحنا صحاب الخطوة الأولى”، وكما يجب عليك كعاقل أن تدرك أنك مضيت في الثورة عندما وضعت تحت نارين إما أن تكون في صف المجرم أو أن تكون في صف العدالة، اخترنا العدالة كصيحة للحرية وهتفنا بها، آمنا بها كما آمنا بأمهاتنا ساعة ولادتنا، وكما نؤمن دائماً أن الحياة التي زرعنا بها قد لا تثمر بين أيدينا، ولكن على الأقل كي لا نلعن أرواحنا عندما نحتضر يوماً ونقول تخلينا عندما ترك الجميع أيدينا. نحن تغربلنا حقاً لم يبقَ إلا قلة تمسك بالعهد وتوفي به، وهذا الأمر ليس بطولة بل موتاً، لأنك مدرك تماماً أن حلمك صار قهراً عظيماً وأنك وحيد .. بعيد .. منفي، وأن كل وجوه الشر تجتمع لتحيل حلمك سراباً كأنه لم يكن وأنت لا زلت تمسك به، تتحدث عنه، تبث فيه الحياة وسط كل هذا الموت.. وأنك ولو عادت بك الكرة لاخترتها بكامل الحب والتضحية والرغبة، وما اخترت سواها سبيلاً!
هل ندمنا؟
قط!
رغم أن كل ما حصلناه من بؤس وتعب في طريقنا الطويل هذا يفضي لنهاية مماثلة ومغفورة أيضاً، لكن الأمر لا يرتبط بما أُريدَ له أن يكون، بل بما تريده أنت أن يكون، على الأقل في داخلك. كل التشوهات والصعوبات والأشياء تحملك لتكون شيئاً واحداً في هذا الزمن إن لم تستطع أن تصنع نصراً على الأقل لا تسمح بأن يصبح كل ما مررت به نسياً منسياً، وتسمح للقتلة أن يركضوا فوق قبور من نحبهم مختالين بتغلبهم على ذاكرتنا الخجلى، لا تسمح لأن تصبح الصورة التي دفعنا لأجلها جُل ما نملك غصباً وربما طوعاً أن تصير هامشاً تخجل أن تحدث عنه ابنك..
نسيت.. أنا مصابة بزهايمر جبان..
سأعود لمحطة الخوف قليلاً، على طاولتي خمس أوراق تنتظر البت فيها، وحياة جديدة ربما، ومفترقات طرق وعرة وضرورية، وبيني وبينها ابني ذو السبعة أعوام يقف متلصصاً على اختياراتي، ينتظرني أن أقرر ليبكي مجدداً وينوح في وجهي “لاء يا ماما لاء ما تعملي هيك” وأنا أراقب الدمع الملتمع خلف الجفنين، وأتنحى!
Sorry Comments are closed