ليس جديداً أن يضطر المرء إلى وضع سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خارج نطاق أيّ محكّ عقلي، أو منطقي، أو حتى مزاجي صرف؛ خاصة حين تكون عجائب هذا المسلك أو ذاك منبثقة من آفة كبرى، مركزية، هي انقلاب ترامب على نفسه، بنفسه، دونما نذير يوحي بالتغيير، أو مؤشر يسبقه أو يمهد له.
ويحدث، غالباً، أن تتصادف مناسبة ما، هامة أو حاسمة، مع واقعة سلوكية ذات صلة، تُبطل الكثير من «الزخم» الذي يتقصد سيد البيت الأبيض إحاطته بالمناسبة، ودمغها ببصمته التي لم تعد مميزة فحسب؛ بل باتت نسيجا وحدها حقاً!
على سبيل المثال، في مناسبة صدور وثيقة «ستراتيجية الأمن القومي الأمريكي» للعام المقبل 2018، في وسع المرء أن يستعيد مسلك ترامب خلال اجتماعه الأوّل مع أبرز حلفاء الولايات المتحدة، سياسياً وعسكرياً، أي الحلف الأطلسي.
ففي أيار (مايو) الماضي زار ترامب مقرّ القيادة العسكرية للحلف في بروكسيل، وألقى كلمة هناك، ثمّ صنع المفاجأة، وسط ذهول جميع مساعديه، وعلى رأسهم صنّاع القرار حول الأمن القومي الأمريكي ذاته: هربرت رايموند ماكماستر، مستشار الأمن القومي؛ جيمس ماتيس، وزير الدفاع؛ وريكس تيلرسون، وزير الخارجية. ذلك لأنّ هؤلاء، ومساعديهم، كانوا قد اشتغلوا على نصّ خطبة تعيد التأكيد على التزام الولايات المتحدة بالبند الخامس الشهير في اتفاقية الحلف، الذي يقول بتعاضد الدول الأعضاء في الدفاع المشترك عن أي بلد عضو يتعرض لهجوم؛ لكنّ ترامب شاء حذف هذه الفقرة في ربع الساعة الأخير، وذهب مذهباً مماثلاً لذاك الذي بشّر به خلال حملاته الانتخابية، وأكد عليه ثم باشر تطبيقه عند زيارته إلى المملكة العربية السعودية: من حقّ أمريكا أن تستردّ من الآخرين ما أنفقته من أموال لقاء الحفاظ على أمنهم ومصالحهم!
فماذا، في المقابل، تقول وثيقة ستراتيجية الأمن القومي الجديدة، حول الحلف إجمالاً، والبند الخامس تحديداً؟ «حلف شمال الأطلسي، بين دول حرّة وذات سيادة، هو أحد امتيازاتنا الكبرى على منافسينا، والولايات المتحدة تواصل الالتزام بالبند الخامس من اتفاقية واشنطن»، تقول الوثيقة. ولكنها، في الفقرة التالية مباشرة، تطالب الشركاء بـ»تحمّل مسؤولياتهم، وسداد حصص عادلة لحماية مصالحنا المشتركة، وسيادتنا، وقِيَمنا»؛ وهذا مطلب منصف ولا غبار عليه، لولا أنّ ما تطلبه الوثيقة يذهب أبعد: «سوف نطلب تشجيع الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، لخلق الوظائف»، و«سنعمل مع شركائنا لمنافسة ممارسات الصين التجارية والاقتصادية غير العادلة، وتقييد امتلاكها التكنولوجيات الحساسة». وكذلك، ولكن بإملاء الأرقام هذه المرّة: «الولايات المتحدة تتحمل مسؤولياتها الدفاعية وتتوقع من الآخرين أن يحذوا حذوها. نتوقع من الحلفاء الأوروبيين أن يرفعوا الإنفاق الدفاعي إلى 2٪ من الناتج القومي الإجمالي حتى غاية 2024، مع تخصيص 20٪ من هذا الإنفاق لزيادة القدرات العسكرية».
ولكن… مَن الذي يهدد دول الحلف حقاً، منفردة أو مجتمعة، حتى ترفع نسبة الإنفاق الدفاعي هكذا؟ تتحدث الوثيقة عن «متغيرات في ميزان القوّة» يمكن أن تكون لها عواقب عالمية، وتهدد مصالح الولايات المتحدة؛ بينها الأسواق، والموادّ الخام، وخطوط الاتصال، ورأس المال البشري… بوصفها متمركزة في، أو متحركة ضمن، مناطق أساسية في العالم، مثل الصين وروسيا، تسعى لممارسة القوة على امتداد العالم؛ وتلتقي في هذا مع دول مثل كوريا الشمالية وإيران، تهدد مصالح الولايات المتحدة مباشرة. في هذا تبدو الوثيقة وفية لنظريات سابقة، ولكنها تأبى الاندثار في الواقع، حول «محور الشرّ» و«الدول العاصية»؛ مع فارق أنّ التنويع الذي تُدخله إدارة ترامب لا يكتفي بتأثيم يصدر عن الولايات المتحدة، كما فعل أمثال رونالد ريغان وجورج بوش الابن، بل يزجّ بالحليفات الأوروبيات في الحروب ذاتها، حتى حين لا تكون لها أية مصلحة في خوضها، بل قد يكون العكس هو الصحيح.
في المقابل، وإذْ تشدد الوثيقة على توطيد نفوذ الولايات المتحدة في ميادين الدفاع والصناعات الدفاعية، والتفوق النووي، والفضاء، وأبحاث الفضاء، والاستخبارات، والدبلوماسية التنافسية، وأدوات الدبلوماسية الاقتصادية، وتكنولوجيا المعلومات… فإنّ الوثيقة لا ترى في مسائل المناخ والبيئة والاحتباس الحراري أي تهديد للمصالح الأمريكية، حتى إذا كان جلياً تماماً أنها تهدد المعمورة بأسرها. ليس هذا فحسب، بل إن إدارة ترامب انسحبت من اتفاق باريس حول المناخ، الذي سبق أن انضمت إليه إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وتحت ذريعة «الواقعية المنضبطة»، حسب تعبير الوثيقة، تشدد الستراتيجة الجديدة على أنّ خلاصاتها مستمدة من «الإقرار بدور القوّة في السياسة الدولية»، وأنّ إشاعة «المبادئ الأمريكية» هي التي تضمن السلام والرخاء في طول العالم وعرضه.
لكنّ تلك «المبادئ» واقعة اليوم تحت إدارة أقرب إلى بقالية تجبي ديوناً بالمفرّق، رغم أنها غير مستحقة مباشرة كما يتوجب القول، لإنّ الإنفاق الأمريكي على أمن أوروبا، أو أمن السعودية في مثال عربي، قبضت أمريكا أثمانه مضاعفة، عبر اختلال موازين التجارة الدولية، أو العقود الخرافية في مبيعات الأسلحة. وهذه، استطراداً، بقالية تقضّ مضجع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جورج مارشال، ذاته؛ الذي أنس في نفسه ـ متكئاً على أنه حصد جائزة نوبل للسلام وهو الجنرال السابق، ومستأنساً بـ«الريادة» الكونية لرئيسه يومذاك، فرنكلين روزفلت ـ القدرة على إعادة صياغة العالم، عبر البرنامج الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري العملاق الذي سيُعرف تاريخياً باسم «مشروع مارشال». وفي حفل تخريج دفعة جديدة من طلاب هارفارد، يوم الخامس من حزيران (يونيو) 1947، ألقى مارشال تلك الخطبة القصيرة التي ستعلن خطة أمريكا لانتشال أوروبا من أوزار الحرب العالمية الثانية.
تلك كانت سلسلة عمليات ستراتيجية في التجارة والأعمال (إعادة تشغيل مصانع كبرى مثل «رينو» و«بيشينيه» و«داسو» في فرنسا، و«فولكسفاكن» و«ديملر ـ بينز» في ألمانيا، و«فيات» في إيطاليا…)؛ ولكن، أيضاً، في التسويق الفلسفي للقِيَم الرأسمالية، والتصدير الثقافي لنمط الحياة الأمريكي، وما إلى ذلك. ولم يكن هذا التوجّه جديداً، فمنذ مطلع القرن الماضي اعترف الرئيس الأمريكي وودرو ولسون بالدور الداعم الذي يلعبه جهاز الدولة الرأسمالية الكونية، بالنيابة عن الرأسمالية الكونية: «يجب على جيش الأمة أن يقاتل لكي تنفتح الأبواب الموصدة أمام التجارة والصناعة. وينبغي على أجهزة الدولة حماية التنازلات التي يتوصل إليها التاجر والصانع، حتى إذا اقتضى الأمر انتهاك سيادة الأمم في هذه السيرورة. ويجب الحصول على المستعمرات أو إقامتها إذا لم تكن موجودة، بهدف استثمار وتوظيف كل زاوية من جهات الكون».
فارق في النوعية، إذن، وليس في المحتوى الستراتيجي والجيو ـ سياسي الأعمق، بين مشروع مارشال/ روزفلت، وبقالية ترامب؛ وهذا لا يقتصر على الفلسفة السياسية أو الرؤية الكونية، بل يشمل أيضاً ما أسماه المؤرّخ الثقافي الأمريكي موريس بيرمان «أفول الثقافة الأمريكية»؛ بالقياس إلى سائر العالم خارج المحيط الأطلسي، في الواقع: 42٪ من الراشدين في أمريكا لا يستطيعون تحديد موقع اليابان على الخريطة، و40٪ منهم (أي نحو 70 مليون راشد!) يجهلون أنّ ألمانيا كانت عدوّة أمريكا في الحرب العالمية الثانية، والنسبة ذاتها من هؤلاء الراشدين لم يقرأوا أيّ كتاب في أيّ يوم، بما في ذلك القصص البوليسية والرومانسية…
وليس عجباً، بالتالي، أنّ نصف أبناء هذه الثقافة لم ينتخبوا ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فحسب؛ بل أتاحوا له أن يعيّن نفسه بقّال العالم، جابي ضرائب أمن الكرة الأرضية وأخطارها!
عذراً التعليقات مغلقة