تمر أيام الثورة العجاف وتمتزج الدماء بلحظات الأمل البيضاء التي تتخلل الزمن الأسود الذي يعيشه الشعب السوري في صراعه من أجل حريته. وتعصف المصائب بالناس المحاصرين في الداخل السوري وتثقل كاهلهم وتزيد من صعوبة الحياة المعيشية في ظل حصار مفروض وقصف ممنهج وصمت دولي ولحظات اعتاد فيها الناس غمس لقمة عيشهم بالدم.
ويأتي الشتاء على ريف حمص الشمالي وتأتي معه بشائر المطر التي يرافقها البرد القارس الذي يهدد حياة الآلاف من الأطفال الأبرياء الذين عجزت أسرهم عن تأمين مواد التدفئة لهم. ويحدق الخطر في أطفال “ماهر ميزنازي” الذي يقطن مدينة تلبيسة في منزل متضرر من القصف مع زوجته وأطفاله الخمسة والمتراوحة أعمارهم من شهرين إلى ستة أعوام.
كان ماهر يعمل سائقاً لصهريج متخصص في نقل البترول وتوقف عمله حين تم تعميم اسمه على حواجز نظام الأسد بسبب نشاطه الثوري. وأصبح الآن يعمل فيما يتيسر له من حصاد قمح وقطاف زيتون ونقل حجارة وغير ذلك. ولكن هذه الأعمال البسيطة والمتقطعة لا تؤمن مدخولاً ثابتاً يقدر أن يعيل به أطفاله الصغار.
حين دخلت إلى منزل ماهر، تفاجأت بعدم وجود مدفأة في الغرفة ورأيت بناته الصغيرات الأربعة اللواتي زملّهن شقيقهن البكر “فهد” بغطاء بسيط. ثم ناديت فهد وأجلسته في حضني وسألته: لماذا لا توجد مدفأة في الغرفة؟ فأجابني بأن المدفئة مهترئة وأن أباه لا يملك ثمن الحطب اللازم لإشعالها. وكيف يقدر هذا الرجل الفقير على شراء الحطب الذي يتجاور سعره المئة ليرة سورية للكيلو الواحد أو أن بشتري المازوت الذي يقارب سعر لتره الخمسمئة ليرة سورية.
عدت لسؤاله مرة أخرى: هل تريد أن تدرس لتصبح طبيباً عندما تكبر؟ فأجابني ابن الستة أعوام: لا أريد أن أصبح طبيباً وإنما فقط أريد أن أكبر. جوابه أثار دهشتي … فسألته: لما أنت مستعجل على أن تصبح شاباً ؟ فقال: أريد فقط أن أعمل لأجلب حليب الأطفال إلى شقيقتي الصغيرتين بدلاً من حليب الأبقار الذي يسبب دائماً الإسهال والالتهاب المعوي.
أثار جواب فهد الصغير قشعريرة في بدني وأسقط دمعة صامتة على وجنة أبيه الذي خرج من الغرفة بحجة أنه ذاهب لجلب الشاي … حال أبو فهد كحال كثيرين من المحاصرين في ريف حمص الشمالي تسلك أوضاعهم منحدر الانهيار في ظل تواصل الحرب الدائرة وتصاعد وتيرة القصف على المنطقة ككل والتي يأتي معها قلة فرص العمل وبالتالي نقص مستلزمات الحياة الرئيسية.
وليس فهد إلا وجهاً من أوجه المعانات وواحداً من آلاف الأطفال الذين اعتادوا الانخراط في البؤس الأسري الطاغي على طبيعة حياتهم والمترافق مع الفقر الذي يمنع الأهالي من جلب الألعاب لأطفالهم. كل ذلك نزع البسمة من شفاه أطفالنا وقتل الفرحة في قلوبهم … لا بل أنساهم حتى أن يكونوا أطفالا.
عذراً التعليقات مغلقة