يعود الشتاء من جديد وهواء الريف الشمالي الحمصي الذي كان بالأمس عليلاً بات يحمل معه الخوف أحياناً والجوع في أغلب الأحيان، لا زال الريف الحمصي صامداً فهو باكورة التحرر من قبضة المستبد الأسدي ورغم كل الخلافات الداخلية ورغم أسبقية التسلح إلا أن الريف لازال بعيداً عن مصالحات الدب الروسي لولا هذا الصقيع الذي بات ينخر جنباته.. الخبز…
في عام 2011 انتفض الريف الحمصي ليس نصرة لأطفال درعا فقط بل تحرراً من القمع والاستبداد هي كانت منذ اللحظة الأولى ثورة على حاكم ديكتاتوري، هي تعبير عن قهر وكره لنظام سافل أوغل في استعباد البلاد والعباد، وكان الرد سريعاً قصف بالمدفعية والدبابات لمدة أربعة أيام متواصلة، ثم اقتحام ليتحول إلى احتلال عسكري بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، والمخبز الآلي في الرستن من ضمن الأهداف التي رصدها النظام بقصفه، فقد وجه له ضربات موجعة أوقفته عن العمل فترة الحصار ثم عاود إنتاج الخبز بسواعد أبناءه، لقد تدارك النظام بقياداته العسكرية الميدانية ملامح الاحتجاج التي ظهرت على عمال المخبز الآلي، فألزم الجميع بالعمل ساعات طويلة لتعويض النقص وأدخل خبزاً من أماكن أخرى، فعمال المخبز مثل كل شباب المدينة منهم معتقل ومنهم مصاب ومنهم مختبئ…
في العام التالي كانت انتفاضة الرستن الثانية والتحرر من نير حكم مستبد بحواجزه القذرة وعمليات التفتيش اليومية والمداهمات الدائمة، نهض شباب المدينة بسواعدهم وقليل من الأسلحة وطردوا النظام بكل عتاده وعنجهيته مدحوراً مذلولاً. لكن خروجه لم يكن سهلاً على سكان الرستن فقد دمر بطريقه كل مقومات الحياة وأهمها المخبز الذي تعرض لقصف مكثف من رمايات المدفعية وحتى الطيران، استشهد بعض من كان بداخلة وأصيب كثيرون وغاب المخبز الآلي عن صباحات أهل الرستن.
منذ ذاك اليوم أصبح البحث عن رغيف الخبز أهم متطلبات السكان وانتقلت المنطقة بأكملها للبحث عن بدائل، يصل الطحين أحياناً من الشمال السوري مكلفاً، فقد ضحى الكثيرون بأرواحهم لفتح طريق لإدخال الطحين وكانت تنجح أحياناً وكثيراً تفشل، اعتمد على بعض الأفران المحلية الخاصة المتواجدة في المزارع المحيطة بالرستن فبعض المخابز لازالت تحصل على الطحين من النظام بطرق ملتوية… لكن الخبز لازال قليلاً، والشتاء صعب بلا خبز.
يحكى أن نساء الريف الشمالي أفضل من يصنعن الخبز، وعن طريق الهلال الأحمر وبعض الجمعيات الخيرية التي تشكلت بكل ما تحمل من نقاط استفهام يصل الطحين الى تلك السواعد الناعمة، بلحظات مع قليل من العيدان الجافة وشعلة نار وعينين حانيتين بالدمع مغرورقتين، ويصبح الخبز شهياً ساخناً تغمر الفرحة كل البيت بأطفاله وشيابه… توجه السكان لزراعة القمح فكانت طائرات الغدر توجه قذائفها قبل الحصاد بقليل فتحرق الأخضر واليابس وليست مبالغة أن نقول بأن الطيران وقد بدأ يظهر هنا الطيران الروسي بات يرمي النابالم الذي يشتعل مع كل شيء يلامسه.
تشكلت لجنة الخبز التابعة للمجلس المحلي الحر، ومعه بدأت سلسلة المشاكل بدءاً بالتمويل ومروراً بتأمين الطحين، ثم تشكلت لجنة لشراء القمح لجمعه من الفلاحين وتخزينه للشتاء البارد، ومن ثم تم بناء عدة مطاحن لتحضير الطحين عمل شاق وشابه الكثير من المشاكل والعوائق، لكن من قام عليه رجال ترفع لهم القبعات ويستحقون الاحترام من حافظ على استمرارية انتاج الخبز ولو بالقليل القليل كانوا حقاً صادقين. يغيب الخبز كثيراً وخصوصاً في أيام الشتاء.. أيام الصقيع الجاف حيث لا مخزون غذائي كافٍ كعادة أهل الريف.
ولهذا العمل أسراره التي لا يعرفها إلا من يعمل بتلك المهنة وأصحاب المخابز الخاصة يعرفون كيف يأكلون الخبز من أصحابه، فقد كانت ربطة الخبز متغيراً دائماً رغم جمالية وجودها في البيت وفرحة اللقاء بها، لكن سرعان ما تتبدد الابتسامة ليصبح الوجه بارداً كصباحات كانون، فعدد الأرغفة أحياناً أقل من المعتاد وجافة أحياناً بحيث أنها تصبح فُتاتاً وليست أرغفة.
يعرف أهل الريف الشمالي كيف يتعايشون مع الشتاء -رحم الله أمي- عندما كانت تقول (إذا جي كانون كن ببيتك وخبي خبزك وزيتك).
في بداية العام السابع من عمر الثورة تشكلت هيئة الخبز وهي جهة وصائية تشرف على عملية الخَبز وتراقب المخابز وكذلك هي المسؤولة عن توزيع الخبز بآلية صارت إعتيادية بالنسبة لهم- فهم المسؤولون عن جودة الخبز وعدالة توزيعه بمعدل أربع خبزات اسبوعياً أي في أربعة أيام يصل الخبز لمعظم البيوت في هذا الجزء من الريف الشمالي. ولازال هناك رجال يقفون بوجه الجوع والبرد، لكن الصقيع في قلب الشتاء لا زال ينخر أجساد أطفال الريف الشمالي من حصارين، أولهما بات معروفاً للجميع وهو نظام القهر والظلم وثانيهما تاجر مستغل يستطيع وبطرق جهنمية إدخال الخبز إلى الريف الشمالي وبيعه بأسعار عالية، هذا هو الصقيع المخيف.
ثلاثة أيام من كل أسبوع يجب على ربّ الأسرة البحث عن بدائل تعين أطفاله على الصمود بوجه الجوع والبرد وهذا الشتاء الثامن على الريف الشمالي يأتي كئيباً بعد موسم قاحل فلا خبز في البيوت ولا زيت فكيف لهذا الرجل أن يكن ببيته.
Sorry Comments are closed