لم تكن مستغربةً حالةُ الاستياء والتشدد التي ظهر بها النظام السوري في جولة مفاوضات “جنيف 8″، سواء فيما يتعلق بموقفه من مخرجات مؤتمر “الرياض 2” أو بوثيقة ستيفان دي ميستورا. وإذا كان هذا التشدد يعكس الهوة الكبيرة بين مواقف طرفيْ المفاوضات، فإنه يعكس أيضا حالة الأرق والارتباك التي تعتري النظام مع دخول مارثون المفاوضات مرحلة جديدة، تشكّل قطيعة مع المراحل السابقة.
خصوصية المرحلة
تنعقد جولة “جنيف 8” ضمن ظروف سياسية وعسكرية تختلف كثيرا عن الجولات السابقة، وأهم هذه الظروف:
1- وقف إطلاق النار بشكل كبير بين فصائل المعارضة المسلحة والنظام، لتنتهي بذلك ثنائية السياسي/العسكري التي أفرغت الجولات السابقة من محتواها، مع إصرار النظام دائما على أولوية محاربة “العنف والإرهاب”، وتأجيل البحث في الاستحقاق السياسي.
2ـ إنهاء الوجود الإستراتيجي لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، مع ما يعنيه ذلك من تهيئة الأجواء لعودة ثنائية النظام/المعارضة إلى المشهد التفاوضي، وهي الثنائية الضرورية للحل من وجهة نظر المجتمع الدولي.
3ـ قبول النظام السوري بأهمية جنيف كمسار سياسي، وإن جاء هذا القبول بشكل واضح على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه بشار الأسد، حين قال: “أعتقد أن أهم شيء الآن بالطبع هو الانتقال إلى القضايا السياسية، وألاحظ برضا استعدادكم للعمل مع كل من يريدون السلام والتوصل لحل للصراع”. ثم تصريحه -خلال قمة سوتشي الثلاثية- بأن “أطراف الأزمة السورية يجب أن يقدموا تنازلات، بمن فيهم الحكومة السورية”.
4ـ تطور الموقف السياسي للمعارضة عبر إدخال قوى جديدة في صفوف “الهيئة العليا للمفاوضات” أولاً، وتخفيف لهجتها السياسية في البيان الختامي لمؤتمر “الرياض 2” ثانيا.
5ـ ضبط إيقاع السقف السياسي للمفاوضات وفق ما عبّر عنه بيان الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي بوتين، الذي تحدث صراحة عن إصلاح وليس عن انتقال سياسي يقود إلى تغيير جذري للنظام.
وقد بدت العبارة الواردة في هذا البيان بشأن “إعلان الأسد التزامه بعملية جنيف والتغيير الدستوري والانتخابات، وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 2254″، تأكيدا صريحا -هو الأول من نوعه- على أن الأسد سيكون جزءا من المرحلة المقبلة.
6ـ إعلان الولايات المتحدة بقاءها في سوريا إلى حين استكمال الانتقال السياسي، ويشكل هذا التصريح ضغطا كبيرا على المحور الروسي/الإيراني/السوري (النظام) للمضي قُدما في المسار السياسي.
7ـ انضمام تركيا إلى المحور الروسي للبحث عن توافقت للمسألة السورية، وأهمية هذا الانضمام تكمن في أنه سيدفع المعارضة للاعتدال في مطالبها، ويدفع الروس لممارسة ضغوط أكبر على النظام السوري.
إستراتيجيات متباينة
أمام هذا المناخ الجديد أدرك النظام أن مرحلة المفاوضات الجدية قد بدأت، وأن ورقة الإرهاب ووقف إطلاق النار التي طالما تذرع بها قد ولّت، ولم يعد أمامه سوى القبول بالواقع التفاوضي الراهن.
لكن النظام يفهم هذا الواقع انطلاقا من قراءة تعتبر الحرب امتدادا للسياسة، لقد قالها الأسد مواربة في سوتشي: “الوضع الآن على الأرض ومن الناحية السياسية يسمح بتوقع إحراز تقدم في العملية السياسية”، وقالها بشار الجعفريصراحة: “المعارضة لم تقرأ التطورات السياسية والعسكرية في المشهد السوري”.
من هنا جاء هجوم النظام الكبير على “الرياض 2″، حيث فوجئ بالبيان الختامي للمؤتمر، إذ كانت المعطيات السابقة لانعقاده تشي بأن المعارضة قاب قوسين أو أدنى من إحداث انعطافة سياسية كبيرة.
مفاوضات جنيف يجب أن تكون -في رأي النظام- انعكاسا للواقع الميداني وتتمة له، بحيث تكون الكلمة العليا له، وهذا ما يفسر سبب استياء النظام من دي ميستورا؛ فالاعتراض ليس على الوثيقة التي قدمها، وإنما على تجاوزه لدوره كوسيط.
فالمفاوضات الجارية يجب أن تكون -من وجهة نظر النظام- استنساخا للمفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية، أي إبعاد الشرعية الدولية وقراراتها، وترك المفاوضات لموازين القوى.
لذلك يفسر النظامُ مفهومَ الشروط المسبقة وفق طريقة القلب الأيديولوجي للمعرفة، بمعنى أن هذا المفهوم لا يجد تفسيره في بنيته المنطقية، وإنما عبر آليات الوعي الزائف التي تريد كسر المفهوم على صخرة الواقع.
لكن النظام -الذي يتهم المعارضة بفرض شروط مسبقة- سرعان ما يقدم هو شروطه المسبقة، فلا يحق له منع المعارضة من مناقشة كافة المسائل بما فيها مصير الأسد، لأن الفقرة الرابعة من القرار الدولي 2254 تتحدث عن “حكم ذي مصداقية شامل وغير طائفي”.
ولم تأت هذه الفقرة على ذكر مصير الأسد نهائيا، وهذا أمر مقصود كي تُترك هذه القضية للمتفاوضين، وبالتالي من حق المعارضة مناقشتها على طاولة التفاوض.
باختصار، يريد النظام أن تتحول مفاوضات جنيف إلى حلبة لاستسلام المعارضة، والقبول بإصلاحات سياسية تمنحها دورا ما في الحكم، لكن تحت عباءة النظام وفي ظل وجود الأسد.
ترفض المعارضة هذه المعادلة جملة وتفصيلا، وتعتبر أن المفاوضات ذات أهمية كبيرة ربما تتجاوز في أهميتها البعد العسكري، لأنها فرصة لكشف النظام أمام المجتمع الدولي، وفرصة لتحقيق تسوية سياسية تلبي أكبر قدر ممكن من أهدافها.
جديد المعارضة هذه المرة هو أنها تحلت بواقعية سياسية لم تعرفها في السابق، وبغض النظر عما إن كانت هذه الواقعية قد فُرضت عليها فرضا أم جاءت بعد مراجعة سياسية؛ فالمهم هو أن المعارضة فهمت حدود التسوية السورية المتفق على إطارها العام دوليا.
خيار المعارضة واضح: التفاوض من أجل التوصل إلى حل سياسي من خلال طرح كل المسائل على طاولة المفاوضات، مع مرونة معقولة تجاه بعض القضايا، فالأولوية اليوم للوفد المعارض -في ظل المناخ الجديد- هي تهيئة بيئة محايدة قدر الإمكان، تكون قادرة على إنتاج صيغ جديدة للحكم.
بعبارة أخرى؛ لم تعد المعارضة في وارد الإصرار على ضرورة إجراء تغييرات جذرية في الحكم مع بداية الاتفاق، فهي قبلت ضمنا الرؤية الدولية للحل، وأملها أن تعمل مع داعميها على أن تتوج عملية الإصلاح بتغيير سياسي جدي.
وبناء عليه، لن تكون المفاوضات الحالية والمقبلة أكثر سهولة من الجولات السابقة، بل ربما تكون أصعب بكثير، لأن سلة الدستور هي التي ستحدد شكل ومضمون الحكم، وبالتالي سيكون الصراع عليها قويا.
النظام يعتبر تعديل الدستور تطورا سياسيا يسمح بتغيير ما في شكل الحكم لا مضمونه، لكنه -وهذه إحدى أهم مفارقات النظام السوري- يدرك أن شكل الحكم لا يقل خطورة عن مضمونه، فقد بينت التجارب الحديثة أن الشكل الديمقراطي لأنظمة الحكم يؤسس لقواعد وضوابط تساهم مع الوقت في تغيير المضمون، ولذلك يصر على دستور 2012 كمنطلق للتعديل.
أما المعارضة، فترى أن تعديل الدستور القديم يعني شرعنة النظام الحالي، ولا قيمة للتفاوض بشأن الدستور ما لم يكن الهدف تحقيق النقلة السياسية الكبرى، فلا إمكانية لاختزال الانتقال السياسي بمجرد تعديلات بسيطة في الدستور والقانون الانتخابي.
مستقبل غامض
رغم التوافق الأميركي/الروسي على حل سياسي في سوريا، وأن هذا الحل يجب أن ينتهي بتشكيل نظام ديمقراطي؛ فإن مفهوم الدولتين لهذه الخلاصة متباين، وهذا التباين هو الذي يفسر الاهتمام الأميركي الكبير بالانتخابات، والاهتمام الروسي الكبير بالدستور.
لا تهتم واشنطن بتفاصيل العملية السياسية وتشعباتها بقدر ما تهتم بنتاج هذه العملية (الانتخابات)، فمن صناديق الاقتراع يولد النظام السياسي الجديد، بغض النظر عن المسارات والاتفاقات بين طرفيْ المفاوضات حيال تقاسم السلطة وتبعاتها.
وعلى خلاف ذلك، لا تريد روسيا أن تنتهي العملية السياسية بإحداث نقلة كبيرة في بنية النظام، وعليه ينصب اهتمامها على الدستور، لأن التعديلات الدستورية هي التي ستحدد طبيعة المرحلة المقبلة وطبيعة النظام السياسي.
وبدهاء سياسي، بدأ صناع القرار في الكرملين -خلال الفترة الأخيرة- تخفيف تصريحاتهم بشأن الدستور، ورفع مستوى التصريحات المتعلقة بالانتخابات، لبعث رسائل طمأنة للولايات المتحدة بأنها تتشارك معهم في الرؤية والمسار.
كما تهدف هذه الرسائل إلى تشتيت الانتباه الأميركي للخطوات الروسية نحو مؤتمر “الحوار الوطني السوري” القادم في سوتشي، والذي تعول عليه موسكو كثيرا.
لا يعني ذلك أن روسيا تبحث عن بدائل لجنيف، فالروس أذكى من ذلك بكثير، وهم يدركون جيدا أنه لا بديل عن جنيف، لكنهم يأملون أن يحققوا اختراقا سياسيا ما في سوتشي، وهذا الاختراق لا بد أن يُؤخذ بعين الاعتبار على طاولة المفاوضات، كما حدث في أستانا التي أخذت مخرجاتها بعين الاعتبار.
وبناء على ذلك، لم نلحظ اهتماما روسياً أو ضغوطا على النظام عندما أجل ذهاب وفد المفاوضات إلى جنيف، أو حتى عندما رفع وفد النظام مستوى خطابه أمام المبعوث الأممي والمعارضة على السواء، وتلويحه بأنه لن يعود إلى المرحلة الثانية من جولة المفاوضات الثامنة
عذراً التعليقات مغلقة