يعلّق المستثمرون والسياسيون، على امتداد الشرق الأوسط، آمالاً كبيرة على إعادة بناء سورية لتوليد فرص عمل جديدة وإعادة تشغيل اقتصاداتهم التي لحق بها أذى كبير منذ الانتفاضات الشعبية في 2011. وتؤكد تكلفة إعادة الإعمار، التي تقدر بما بين 100 و300 مليار دولار، المصالح الكبيرة جداً التي تمثلها تلك العملية بالنسبة إلى المنطقة ككل.
غير أنه من الناحية العملية، لا يوجد احتمال كبير بأن تحدث أية عملية لإعادة البناء ما لم يتم التوصل إلى اتفاق سياسي شامل، وهو أمر غير محتمل بحد ذاته.
فالدول والمؤسسات التي لديها القدرة المالية، والتي غالبا ما تموّل مثل هذه الجهود المالية الواسعة النطاق، وهي دول الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وعبرها البنك الدولي، خسرت الحرب في سورية، وهي لن تنفق أموالها في بلد تسيطر عليه إيران. أما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة فيريدان التوصل إلى اتفاق سياسي قبل الشروع في تحويل الأموال إلى سورية. وفيما يعتقد البعض أن الخوف من اللاجئين سيدفع الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف إلى دفع الفاتورة، فإن إعادة بناء العلاقات مع النظام السوري ستكلف الاتحاد الأوربي كلفة سياسية عالية، لم يزدها الهجوم الكيماوي في خان شيخون إلا سوءاً.
بالمقابل، فإن الدول التي ربحت الحرب، أي روسيا وإيران، لا تملك الإمكانيات المالية لدفع ثمن إعادة الإعمار. وقد بذل كل من البلدين، منذ 2011، جهوداً كبيرة وأموالاً طائلة في الحرب (وقد حققت روسيا بالفعل مكاسب من وراء قتل السوريين، وذلك من خلال صفقات تصدير أسلحة)، ولكنها لم تقدم سوى القليل جداً من حيث المساعدات الاقتصادية المباشرة، باستثناء إمدادات النفط من طهران.
ويتوقع البعض أن تقوم الصين بملء الفراغ، بيد أن كل الدلائل من بكين تشير إلى انعدام رغبة السلطات الصينية في المشاركة في شكل كبير في بلد يقع في خضم التوترات والصراعات الإقليمية والدولية المختلفة. ولا ننسى أن إيران والمملكة العربية السعودية كليهما مورّدان مهمان للنفط الخام للصين، ما يجعلها تتردد في استعداء أي منهما. أضف إلى ذلك أن الصين كلما استثمرت في بلد من البلدان الناشئة، كحال أفريقيا، كانت تطالب في المقابل بالحصول على الموارد الطبيعية لهذه البلدان، ولكن سورية ليس لديها إلا القليل من هذه الموارد، التي استولت عليها، على أي حال، روسيا وإيران.
ويقول بعض المسؤولين في الحكومة السورية الذين أدركوا حجم العقبات التي يواجهونها، إنهم سيعتمدون على الشراكات بين القطاعين العام والخاص من خلال المستثمرين والمصارف المحلية. والحال أن معظم المستثمرين البارزين غادروا سورية، وليست البنوك في حال يؤهلها لتوفير التمويل. ففي نهاية حزيران (يونيو) 2017، بلغ مجموع الأصول الموجودة للبنوك في القطاع الخاص البالغ عددها 14 مصرفاً، 3.5 مليار دولار فقط، وهو ما يشكل أقل من عشر أصول مصرف واحد كبير في لبنان أو الأردن، مثل بنك عودة أو البنك العربي.
بيد أن المشكلة ليست مالية فحسب، ولكنها تكمن أيضا في فقدان أي استراتيجية شاملة لإعادة الإعمار. ويبدو أن السياسة الوحيدة التي تتبعها الحكومة تعطي الأولوية لمصالح روسيا وإيران من ناحية، ورجال أعمال النظام من جهة أخرى.
ولا شكّ في أن موسكو وطهران تريدان أن تحصّلا ثمن الدعم السياسي والعسكري الذي قدمتاه إلى النظام في السنوات الماضية. وقد اكتسبت روسيا بالفعل، على سبيل المثال، حقوق تطوير مناجم الفوسفات السورية وحقول النفط والغاز، وكثير من عائدات هذه الموارد التي كان يمكن استخدامها لتمويل إعادة الإعمار سيذهب في الواقع إلى شركات روسية. وعندما اجتمعت أخيراً «اللجنة الروسية- السورية المشتركة للتعاون الاقتصادي»، لم تُناقش مشاريع الاستثمار في البنية التحتية السكنية أو شبكات المياه التي تشتد الحاجة إليها، ولكن انحصر النقاش في مشاريع الطاقة وإنشاء خط سكة حديد يربط بين مناجم الفوسفات وميناء طرطوس بهدف خفض تكاليف تصدير الفوسفات لمصلحة الشركة الروسية التي تستخرجه من المناجم.
وفي الوقت ذاته، تستعد إيران لتقديم قرض بقيمة مليار دولار إلى الحكومة السورية (وهو مبلغ ضئيل جداً بالمقارنة مع الاحتياجات الحقيقية للبلاد) شرط أن تُستخدم حصراً لشراء المنتجات الإيرانية. وبالتالي فإن أموال طهران هي مساعدة للشركات الإيرانية بمقدار ما هي دعم للاقتصاد السوري.
من ناحية أخرى، تستثمر الحكومة الأموال المحدودة التي لديها لتمويل المشاريع التي من شأنها أن تفيد رجال الاعمال الموالين لها. ولعل الرمز الأبرز لهذا التعاون هو مشروع «بساتين الرازي» العقاري الواقع في حي المزة بدمشق، والذي تم طرد آلاف العائلات السورية من بيوتها فيه.
ويطلق العديد من السوريين على مشروع بساتين الرازي اسم «سوليدير السوري» بسبب المباني الشاهقة المخطط لها، ولأنها ستكون مخصصة حصرياً لتلك الفئة الضئيلة جداً من السوريين التي تستطيع شراء مساكن باهظة الثمن.
لكن على رغم الطلب الهائل الآن على السكن الشعبي لبناء منازل محل مئات ألوف البيوت التي دمرت خلال الحرب، وعلى رغم قدرات الإقراض المحدودة جداً للبنوك المحلية، أصدرت الحكومة تعليمات لأحد بنوك القطاع العام لتمويل البنية التحتية لمشروع بساتين الرازي، الذي ليست له جدوى اقتصادية مهمة، ولكنه يحقق أرباحاً ضخمة لعدد ضئيل من رجال اللأعمال. وهذا ما تعطي الحكومة الأولوية له.
إن الآمال الكبيرة بوجود حملة لإعادة الإعمار في سورية مبنية، أساساً، على افتراضات زائفة. وآخر مثال على جهود إعادة الإعمار الكبيرة في المنطقة هو لبنان. في تلك الحالة كانت هناك جملة من العناصر: 1) صفقة سياسية تدعمها الأطراف الفاعلة الرئيسية إقليميا ودوليا، 2) الدور البارز لرفيق الحريري، الرجل القوي ذي العلاقات الاقتصادية والسياسية المتينة في جميع أنحاء العالم، 3) رؤية لما يجب أن تقوم عليه إعادة الإعمار، أي إعادة وضع لبنان، وبيروت، كمركز للوساطة بين الشرق الأوسط والغرب، 4) ودعم مالي قوي من دول الخليج والغرب.
في حالة سورية اليوم كل هذه العناصر مفقودة. لذلك، من غير المرجح أن تبدأ إعادة إعمار سورية في أي وقت قريب.
عذراً التعليقات مغلقة