بحكم تدويل القضية السورية، وبحكم اعتبار روسيا نفسها صاحبة اليد العليا في الساحة السورية عسكرياً وسياسياً؛ تجدها تخوض جملة من المعارك مع قوى متعدّدة، وعلى جبهات مختلفة، ضامنة نصرها على تلك القوى، باستثناء واحدة، تعتقدها الأسهل والأضمن نجاحاً؛ لكنها الأصعب، والأضمن فشلاً.
تخوض روسيا، مع أميركا والغرب، معارك سياسية ودبلوماسية ذات طبيعة “مناكفاتية” ابتزازية حلْبتها على الغالب مجلس الأمن؛ تمثلت بتسجيل نقاط سوداء على موسكو، لاستخدامها حق النقض (الفيتو) تسع مرات. ترافق ذلك مع مناوشات ومشادات سياسية بشأن القرارات الدولية المتعلقة بسورية، وخصوصا إصرارها على تلغيم تلك القرارات بما يجعلها مستحيلة التطبيق، أو سهلة القفز فوقها، والالتفاف عليها، أو إفراغها من مضمونها. تحت يافطة “الحرص على سورية والسوريين”، يفوّت الغرب على روسيا أي انفراج في ملفاتها الأخرى، حيث أرادت الملف السوري سلعة المقايضة من أجل تلك الملفات، ولكنها في المجمل تبقى صاحبة اليد الأعلى فيما يخص سورية، مقارنة مع الغرب.
عقدت روسيا، مع إيران، في سورية زواج إكراه، أو شراكة اضطرارية تأخذ أحياناً شكل الحرب؛ لكنها في المجمل مقدور عليها. ففي هذه العلاقة، تستفيد موسكو من موقف العالم السلبي تجاه إيران، وتستفيد من اضطرار إيران لروسيا لتكون رابحة ابتزازياً في الحالتين، على الرغم من العبء الذي يلقيه سجلِّ إيران الأسود على الحسابات الروسية. ومعروف أنه ما أن ترتب روسيا أمراً يتعلق بإحكام سيطرتها على سورية، إلا لتجد إيران وقد خرّبته بسياسات ابتزازية مضادة. وعلى الرغم من ذلك، تبقى المكاسب أكبر من الخسائر لروسيا التي ربما تعلّمت من درس أفغانستان، وغياب أي حليف، حتى ولو كان ابتزازياً وانتهازياً.
هناك معركة محرجة لروسيا في القضية السورية مع إسرائيل التي تعبث وتوتّر، وتؤْثر استمرار القتل والدمار في سورية؛ الأمر الذي يقلق روسيا التي تسعى إلى إيصال رسالة للعالم بأن الأمور في سورية تهدأ؛ وما بقي أمامها إلا إعادة تأهيل النظام. وفي مقابل ذلك التنغيص الإسرائيلي لروسيا، تعتقد الأخيرة أن تل أبيب نقطة إيجابية لصالح روسيا عند الغرب؛ فإسرائيل إحدى أدوات روسيا لتقديم أوراق الاعتماد الروسية لدى الغرب. وإن كان هناك قتل وتدمير وتحقيق مآرب لإسرائيل في سورية، فهي من جيب غيرها؛ وحالها ها هنا كالذي يهب ما لا يملك أو يهمّه لمن لا يستحق. وفي النهاية، كلما استمر التوتر، استمر النظام الذي تحرص إسرائيل على بقائه؛ وهذا ما تريده موسكو أساساً.
تخوض روسيا أيضاً معركةً مع الأمم المتحدة، فلا يعني استخدام حق النقض (الفيتو) تسع مرات (والعاشرة على الأبواب) لحماية قاتل، ولسحق حق شعب في العدل والأمان، إخلالا بحقوق الإنسان وأمنه، بل هو إخلال بالتوازن والتوافق الدولي، وتعريض للأمن والسلام العالميين للخطر. هذا أيضاً مقدور عليه لدولةٍ كروسيا آخر اهتماماتها شأنٌ كهذا، بحكم ممارستها واحتكامها لقانون القوة، لا لقوة القانون في سياستها الداخلية والخارجية، مهما لطّفت ذلك، وغلّفته بغطاء من “الغوبلزية الذكية”.
معركة روسيا الأساسية والأصعب مع الشعب السوري. إنها تشبه تماماً معركة “نظام دمشق” مع شعبه. من هنا، تراها تشبه هذا “النظام” إلى حد التطابق في المسلك والموقف والنهج. لهذه المعركة عدة أوجه وأشكال؛ ففي بعدها العسكري، حولت روسيا سورية إلى حقل تجارب لأسلحتها (وبكل وقاحة تفاخر بذلك) الأمر الذي شكّل إهانة كبيرة لشعب سورية، وحتى للـ”نظام” الذي يدّعي وتدّعي السيادة والشرعية. أقرّت روسيا ذاتها بأنها جرّبت مئات أنواع الأسلحة التي أثبتت فاعليتها؛ وكأن السوريين تحولوا إلى فئران تجارب قتلهم محلّل.
على الصعيد السياسي، لا يفوت سورياً أن روسيا تحتجز بيدها مفتاح مجلس الأمن، وتحول دون تجريم من ارتكب كل هذه الفظاعات بحق السوريين وبلدهم. إضافة إلى ذلك، سعت روسيا إلى أن لا يأخذ أي قرار دولي يخصّ السوريين طريقه إلى التنفيذ: (بيان جنيف، القرار 2118، القرار 2254)؛ وتجلّى ذلك بمساعدة النظام في تلكؤه ورفضه أي انخراط في العملية السياسية. وقد سعت روسيا إلى التحكّم بالمبعوث الأممي، استيفان دي ميستورا وابتزازه؛ فصار تحت رحمة إقرار وزير الخارجية، سيرغي لافروف، أي جولة من “جنيف”؛ وكأنه مبعوث لها، لا للأمم المتحدة. كما أنها كانت تسحبه إلى “أستانة” شاهد زور، على الرغم من أن أستانة ليست تحت يافطة الأمم المتحدة.
في العملية السياسية المتعثرة، جعلت روسيا شغلها الشاغل، منذ البداية، نسف مصداقية المعارضة؛ وتحولت إلى صدى لصوت منظومة الاستبداد في دمشق، ورددت عبارات مندوب النظام في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، بأنه لا يوجد مَن تفاوضه “حكومة الجمهورية العربية السورية” على الضفة الأخرى؛ والمعارضة عملاء لدول أجنبية وإرهابيون ومأجورون. وما عقدت لقاءات مع فصائل ثورية سورية في “أستانة” إلا وفي رأسها أن هؤلاء سيكونون في جيبها، وينفذون ما تريد.
سعت روسيا إلى تتفيه مسار جنيف، ونسف أي مفاعيل أو نتائج محتملة له. كما أنها سعت إلى إفراغ “أستانة” التي اخترعتها من أي مضمون، عبر وعود خلبية بثت الإحباط واليأس في صفوف الثورة وحواضنها. وأخيراً، خرج الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على السوريين بفكرة مؤتمر لـ “شعوب سورية” كي ينسف كل ما قبله من مشاريع الحل السياسي، وليشرعن احتلاله سورية عبر جلب معارضةٍ من صنعه وصناعة مخابرات “النظام”، كي تبصم له على ما يريد في “مصالحة” مهينة موسّعة.
أخيراً، لا بد من القول إن هناك سوريين يقدّرون لروسيا حفاظها على النظام من السقوط أو الحؤول دون السوق إلى محاكم جرائم الحرب، لكن النسبة الأكبر من السوريين يتجاوز غضبهم وحقدهم على الروس، ذاك الذي يكنّونه تجاه “النظام”، أكان هؤلاء مشردين في الداخل السوري أم لاجئين، أكانوا أهل معتقلين أم مقعدين أم مقهورين في زنزانات “النظام”، ويموتون تحت التعذيب الوحشي؛ أم أولئك الذين لازالوا على ضفة النظام، ولكنهم فقدوا فلذات أكبادهم، كي يبقى متربعاً على كرسي الدم. يعرف هؤلاء السوريون أن روسيا هي المتسبب الأساس بعذاباتهم، بحكم حمايتها النظام القاتل. كل واحد من هؤلاء مشروع عدو للروس، حاضراً ومستقبلاً. تلك هي المعركة الأصعب أمام الروس. تلك معركة لا يمكن كسبها؛ وفيها تكمن الهزيمة النكراء لروسيا. وها هي روسيا التي صمتت على “مصالحات” مهينة للسوريين، بعد قصف وحصار وتجويع، قام به النظام وإيران، وتتوج بشاعتها بالقيام بالشيء نفسه؛ ولكن على نطاق أوسع من خلال دعوتها إلى “حميميم” أو “سوتشي”، معتقدة أن ذلك سيجلب الهدوء، ويعيد البلاد إلى وضع طبيعي، وكأن شيئاً لم يحدث. تتجاوز روسيا، بكل صلف ووقاحة، كل ما حدث، وتسعى إلى إعادة التجربة السورية بالأدوات نفسها، بأمل أن تحصل على نتائج مختلفة. ما سيحدث هو عكس ذلك تماماً، وسيفاقم احتقار السوريين الأفعال الروسية وحقدهم عليها. وهذا تُرجِم بداية برفض “سوتشي” بوتين الذي يذكّر بـ”مصالحات” النظام المهينة؛ وسيأخذ الفعل السوري مستقبلاً أشكالاً لا طائل لروسيا بمعالجاتها، وخصوصا أن جبهاتها وأحمالها متعدّدة؛ وأصعبها معركتها مع شعبٍ قرّر أن يكون حراً، وما عاد لديه ما يخسره.
عذراً التعليقات مغلقة