شهدت المسألة الكردية مؤخّراً تطوّرين لافتين؛ الأول، تمثّل في الاستفتاء الذي نظّمته حكومة إقليم كردستان العراق بشأن الاستقلال عن المركز. والثاني، انتخابات المجالس المحلية التي نظّمها حزب الاتحاد الوطني (الكردي السوري) الشهر الماضي، في المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بهدف تشكيل “المؤتمر الديمقراطي الشعبي” لما تسميه “فدرالية شمالي سوريا” (بداية العام القادم).
الملاحظ أن ردود الفعل الكبرى انصبّت على الحدث الأول بحكم تداعياته الإقليمية والدولية، ووجود كيان كردي قائم ولديه إمكانيات (مالية واقتصادية وجيش وحكومة وتمثيل)، وأيضاً بسبب أن هذه الخطوة تعني تقسيم العراق.
وفي المقابل؛ فإن الحدث الثاني لم يلق ذات الاهتمام، إذ لا يوجد للأكراد في سوريا كيان مستقل أو تجربة كيانية سابقة ولا مناطق كردية خالصة، على النحو الموجود بالدول الأخرى (العراق وتركيا وإيران)، ولأن القوة الكردية المهيمنة لا تطرح الانفصال، وإنما تطرح إقامة دولة فدرالية أو اتحادية -ذات نظام ديمقراطي- لكل مكونات الشعب السوري.
وعلى أية حال؛ فإن التطور الحاصل بسوريا أثار عدة مسائل: الأولى، تفيد بوجود مسألة كردية في سوريا. والثانية، تفيد بوجود مسألة كردية في إطار المعارضة السورية. والثالثة تفيد بغياب التوافق على شكل سوريا المستقبل، ومضمون نظامها السياسي بين كل مكونات الشعب السوري الإثنية والطائفية.
المشكلة الكردية السورية
نشأت المسألة الكردية في سوريا كنتاج للسياسات الظالمة والتهميشية، التي انتهجها نظام الاستبداد الذي يحكم سوريا منذ قرابة نصف قرن، كسلطة طاغية همّشت الدولة باعتبارها دولة مؤسسات وقانون، ومحت المواطنة بإنكارها حقوق كل السوريين، انطلاقاً من شعار: “سوريا الأسد إلى الأبد”، الذي عنى أن البلد ملكية خاصة لتلك العائلة، فهذا النظام لا يعترف لا بحقوق المواطنة الفردية، ولا بحقوق الجماعات التي يتشكّل منها الشعب السوري.
بيد أن ما يفترض إدراكه هو أن المظلومية في حق الكرد -كجماعة قومية في سوريا، وكجزء من جماعة قومية كبرى موجودة في عدة بلدان- لم تصدر من النظام باعتباره يمثل جماعة قومية أخرى كبرى في سوريا (العرب).
أي أن الاضطهاد والتهميش اللذيْن لحقا الكرد السوريين جاءا من نظام اضطهد وهمّش كل المواطنين من كل الجماعات بمن فيهم العرب السوريون، وذلك لتمييز هذا النوع من الاضطهاد أو المظلومية باعتباره يصدر عن نظام استبدادي، وهو ما لا يجري الانتباه إليه جيداً في معظم الأوساط الكردية.
ويجعل ذلك الجميع ينخرط في لعبة النظام بوضع الجماعات السورية في مواجهة بعضها (عرب في مواجهة كرد وبالعكس)، واعتبار نفسه حكماً بينها لتعزيز هيمنته، وإضفاء شرعية على بقائه، والنفخ في صراع هوية كي يغطي على الصراع السياسي.
بيد أن ما سبق يتطلّب توضيح أن مظلومية كل السوريين -بغض النظر عن انتماءاتهم- لا تعني أنه لا يوجد نوع من تمييز ضد جماعة قومية بعينها لا سيما الكرد.
فهؤلاء لم يتم فقط اضطهادهم كمواطنين بل تم ذلك باعتبارهم كرداً أيضاً، وهو ما يتجلى ليس في تهميش مناطقهم وحرمانها من الموارد فحسب (فهذا يحصل لمناطق أخرى ذات أغلبية عربية في الجنوب وفي الشرق والشمال الشرقي)، وإنما أيضا في التمييز ضدهم بحرمانهم من التعبير عن هويتهم واستخدام لغتهم، وفي السعي لتعريبهم ووأد الشعور لديهم بانتمائهم لأمة كبرى.
قصور رؤية المعارضة
وعلى أية حال؛ فإن الانتخابات الكردية المذكورة أكدت وجود “مسألة كردية” في الثورة السورية أيضاً، وتحديداً في كيانات المعارضة ونمط إدراكاتها السياسية، مما يفيد بأن عدوى النظام الاستبدادي انتقلت إليها، أو كأن النظام نجح في تعميم ثقافته حتى على أوساط معارضيه.
هكذا، اتّخذت أوساط المعارضة السورية -ولا سيما كيانها الرسمي “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”- مواقفَ استنكرت فيها الانتخابات، وعبرت عن رفضها لنتائجها، ومقاومتها للواقع الذي تتوخّى فرضه في بعض مناطق سوريا.
ومثلاً، أصدر الائتلاف بياناً (21 سبتمبر/أيلول الماضي) وصف فيه الانتخابات بـ”المزعومة”، وقال إن حزب “الاتحاد الديمقراطي” يحاول “تسويقها لتمرير مشاريعه.. وإصراره على إجرائها، مستخدماً كافة وسائل الترهيب المستوحاة من أساليب عصابة الأسد.. بحق أبناء الشعب”.
وأضاف البيان أن “أي خطوة في اتجاه مستقبل سوريا لا بدّ أن تنطلق من… احترام حق الشعب السوري في الاختيار الحرِّ..”، وأن “الإصرار على تسويق أي خيار استباقي بالقوة والإكراه في توقيت مقصود -سواء جاء تحت اسم انتخابات محلية أو بلدية أو في ظل عناوين أخرى- هو انتهاك لحق الشعب السوري في تقرير مصيره ومستقبله، كما أنه محاولة واضحة للالتفاف على نضال السوريين الطويل في سبيل الحرية والكرامة”.
لم يتم الاكتفاء بذلك إذ إن أجواء عدم الثقة التي وسمت علاقة حزب الاتحاد الوطني بفصائل المعارضة، والشبهات التي ثارت حول علاقته بالنظام أو تقاطعاته معه في الفترة الماضية، وغياب تصورات سياسية جمعية لمستقبل سوريا؛ حمّلت خطوة الانتخابات أكثر مما تحتمل، إذ تم رميها بشبهة تقسيم سوريا، أو بشبهة إضعاف الثورة، وثمة من ربط هذه الخطوة بخطة إسرائيلية ما.
بل إن بعض الأوساط ذهبت ظنّا إلى الربط بين الاستفتاء بكردستان العراق والانتخابات الكردية التي جرت في سوريا، نظرا إلى التزامن بين الحدثين، باعتبار ذلك هو اللحظة المناسبة ربما لإقامة كيان مستقل للكرد في المنطقة، خصوصا على خلفية التعامل مع الحزب الكردي المهيمن في سوريا باعتباره فرعاً لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
وفي الواقع؛ فإن الطرفين المعنيين (أي المعارضة وحزب الاتحاد الوطني الكردي) لم يبذلا الجهود الكافية والمناسبة لتعزيز الثقة بينهما، وإزالة الالتباسات والخلافات الحاصلة.
فمن جهة، لا توجد لدى المعارضة تصورات بخصوص المسألة الكردية بل وجهات نظر متفاوتة، فثمة من ينكر وجود هذه المسألة ويعتبر الكرد مجرد وافدين، وهناك من يرى أن حلها يقتصر على إسقاط النظام، كما أن ثمة من يختزل الأمر في قيام دولة المواطنين الديمقراطية.
وفي المقابل؛ لا توجد لدى الأوساط الكردية توافقات حول المستقبل، فثمة من يرى أن الوقت حان لإقامة كيان قومي مستقل، وهناك من يرى أن الوضع يتطلب إقامة كيان حكم ذاتي في إطار فدرالي، وثمة من يرى أن دولة المواطنة الديمقراطية تحل الأمر.
وبالنتيجة فإن السوريين (عرباً وكرداً) يفتقدون تصورات تحظى بإجماع، ويبدون مختلفين على كل شيء في مرحلة يعانون فيها من صراع دامٍ ومدمر، فيما يبدو معظم الكيانات مرتهناً لتوظيفات وتلاعبات خارجية.
والمشكلة عند المعارضة أيضاً أن معظمها يتعامل بمعايير مزدوجة، إذ يتم السكوت عن الرايات الخاصة لمعظم الفصائل العسكرية الإسلامية، وممارساتها المهيمنة على السوريين في المناطق التي تسيطر عليها، في حين يتم توجيه اللوم والإدانة لمواقف وممارسات “قسد” وحزب الاتحاد الوطني الديمقراطي (الكردي) الذي يقودها.
وهذا يشمل حتى “جبهة النصرة” (سابقا) التي ظلت أوساط معارضة تجاملها، رغم أنها لا تحسب نفسها على المعارضة وركّزت على تصفية الجيش الحر، و”تطفيش” النشطاء السياسيين، ومعاداة مقاصد الثورة الأساسية (الحرية والمواطنة والديمقراطية)، مما أضر بالثورة والشعب وبالتيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة.
طبعًا ثمة مآخذ كثيرة على “قوات سوريا الديمقراطية” و”قوات حماية الشعب” وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في المواقف والممارسات، وانتهاج القوة والتفرد بالخيارات، بيد أن هذه المآخذ إنما تكتسب شرعيتها وصدقيتها إذا جاءت متسقة مع الحالات المماثلة أو الأشد خطراً، والتي طبعت الثورة طوال الفترة الماضية.
وجهة نظر أولية
في هذا الإطار، ومهما كان رأينا في حزب الاتحاد الوطني وقوات سوريا الديمقراطية؛ فإن الأمر يتطلب إيجاد تصورات ملائمة -لا سيما عند المعارضة- لمعالجة المسألة الكردية في سوريا، لأن هذا يمسّ مستقبل سوريا ووحدة شعبها، علماً بأن المناطق الخاضعة لهذه القوات باتت تشكّل أكثر من 20% من مساحة سوريا.
وربما أن ذلك لا بد أن يتأسّس على اعتبارات ثلاثة أساسية: أولها، أن المسألة الكردية في سوريا هي مسألة وطنية سورية أساساً، وليست أمراً يخصّ الإقليم أو مصالح بعض دول الإقليم، كما أن ذلك ينبغي أن يجد ترجمته عند الكرد السوريين باعتبارهم جزءا من الجماعة الوطنية السورية.
وثانيها، أن هذه المسألة لا تتعلق بحقوق المواطنة فحسب رغم أهميتها، وإنما أيضاً بوجود شعب أو جزء من شعب آخر، له حقوق جمعية ينبغي الاعتراف بها ومراعاتها في الدستور السوري القادم وفي سوريا المستقبل، في دولة مواطنين متساوين وأحرار، وديمقراطية لا يوجد فيها أكثريات وأقليات على أساس الهويات الدينية أو الطائفية أو المذهبية.
وثالثها، أن حل الصراع السوري ينبغي أن يتركز على إقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، في ظل نظام ديمقراطي ودولة مؤسسات وقانون، لكن يفضّل أن يكون كل ذلك في إطار دولة فدرالية، تقوم على أساس جغرافي/مناطقي لا على أساس أثني أو طائفي، لأن الفدرالية تعني وحدة الأرض والشعب والدولة، وتحول دون التقسيم وإعادة إنتاج نظام الاستبداد، الذي يتغذى من الدولة المركزية التي تحتكر السلطة والموارد.
لكن هذه التوجهات يفترض أن تنطلق من الإدراكات السياسية الآتية:
1- مثلما أن العرب السوريين جزء من قومية كبرى لم يُتح لها التجسد في دولة/أمة، فإن الأكراد أيضاً هم جزء من أمة كبرى لم يُتح لها التجسد في دولة/أمة.
2- إن الأكراد ليسوا وافدين بل هم من شعوب المنطقة، وجزء من تاريخها وثقافتها وأديانها، ولديهم رموز هم جزء من رموز التاريخ العربي السياسية والثقافية.
3- يجب نبذ وتفنيد محاولة البعض تشبيه أي كيان كردي بالكيان الإسرائيلي، فهذه كارثة بعينها وتنم عن سذاجة وتسرّع وتخبّط، إذ إن الغالبية من اليهود في إسرائيل أتت من بلدان وقوميات أخرى عبر الهجرة والاستيطان، وتتألف من خليط لغوي وثقافي، في حين أن الكرد هم من شعوب المنطقة، ولديهم لغتهم وثقافتهم وهويتهم القومية الخاصة.
أما عن تكرار إسرائيل دعمها للأكراد فهو مجرد تلاعب بهم واستغلال لقضيتهم، والأولى بنا -نحن العرب- أن نعبّر عن تضامننا مع مظلومية الكرد، لأنها جزء من مظلوميتنا المتأتية من الأنظمة الاستبدادية.
4- إن القوميات أو الأوطان ليست بمثابة تنزيل سماوي من الأبد إلى الأبد، وليست معطى تاريخياً حديثاً، ولذا من المستغرب أن يظهر مناهضو اتفاقية سايكس بيكو بوصفهم أكثر المؤمنين بهذه الاتفاقية -التي رسمت حدود معظم بلدان المشرق العربي مطلع القرن الماضي- بنفيهم حقوق الأكراد من حيث المبدأ.
5- أيضاً فإن هذه النظرة الخاطئة لحقوق الأكراد تنبع من رؤية تُعلي شأن تقسيم الأرض في حين أنها تستهين بتقسيم المجتمع، علماً بأنه لا وحدة لأرض أو لنظام سياسي من دون وحدة المجتمع، الذي يتكوّن من مواطنين أفراد، على تنوعهم وتعدديتهم الإثنية والدينية والثقافية واللغوية.
بديهي أننا نتحدث على هذا النحو وفي اعتبارنا أن الدول القومية ليس شرطا أن تلبي حقوق المواطنين، وأنها قد تكون دولة قهرية واستبدادية، وأن الحل الأمثل يتمثل في دولة مواطنين ديمقراطية وفدرالية.
عذراً التعليقات مغلقة