شجعت المتغيرات الحاصلة في سورية نظام مصر على استعجال إعادة العلاقة الدبلوماسية علنا مع نظام الأسد في سورية، ويسعى إلى إخراج العملية بقالب ديمقراطي، عبر الإيحاء بحصولها نتيجة ضغط شعبي، ومطالبة نخب وازنة وشخصيات تمثيلية بإعادة هذه العلاقة. والمفارقة أن هذه الحملة جاءت تحت شعار”من القاهرة هنا دمشق”، فيما يبدو ردَّ جميلٍ لدمشق التي أطلقت إذاعتها في أثناء العدوان الثلاثي على مصر ولحظة توقف إذاعة مصر عن البث شعار “من دمشق هنا القاهرة”.
يطبق نظام السيسي المثل المصري “أكل وبلحقة”، حيث لا يكتفي بارتكاب إثم التقارب مع نظامٍ لم يخف أنه ارتكب ما ارتكب من مجازر بحق السوريين، من أجل تحقيق هندسة اجتماعية عنصرية سماها “التجانس”، بل يسعى نظام السيسي إلى تلميعه وتجميله، فقد تزامنت دعاوى إرجاع العلاقات مع نظام الأسد مع حملة إعلامية منسّقة ومقصودة لحرف الرأي العام المصري، وإعادة تشكيله عبر إعادة صياغة القضية السورية برمتها، بحيث يظهر نظام الأسد ضحية مؤامرة خارجية، وأن القضية في الأصل قضية إرهاب تتعرض له الدولة والجيش السوريان، وأن الأمور وصلت إلى خواتيمها، ويجب مساندة سورية والوقوف معها، وإصلاح الخطأ الذي ارتكبته حكومة الرئيس الرئيس محمد مرسي قطع العلاقات مع نظام الأسد.
لكنّ ثمّة فرقا بين الأحداث يصعب، إن لم يستحيل، تجسيره، ذلك أنه عندما قالت إذاعة دمشق “هنا القاهرة”، كانت دمشق لأهلها وسورية يحكمها أبناؤها، وكانت القاهرة تتعرّض لعدوان واضح عقاباً على سياساتها التحرّرية، سواء لجهة تحرير مواردها وفك ارتباطها بالكمبرادور الخارجي، أو من خلال دعمها حركات التحرّر في محيطها العربي “ثورة الجزائر”.
كان طبيعياً أن تقول دمشق “هنا القاهرة”. في حينها، كانت مصر تقود العمل القومي العربي وتدافع عن العروبة، وكان رئيسها جمال عبد الناصر يصنع تياراً قومياً في مواجهة تيارات تقول إن مصر فرعونية، وأخرى تنادي يالتوجه متوسطياً، باعتبار أن العلاقات التاريخية مع تركيا واليونان، وحتى إيطاليا وفرنسا، أعمق بكثير وأكثر نفعاً وفائدة من العلاقات مع الدائرة العربية المتخلفة. في المحصلة، كان شعار “هنا القاهرة” ينطوي على فخر كبير لدمشق، واستثمار في رأي عام عربي محتضن مصر وزعامتها.
ثمّة فرق بين أن يكون لمصر دور في مستقبل التطورات السورية وأن تعمل على تأهيل نظام مجرم. أما عن الدور فهو متحصل بشكل أوتوماتيكي لحاجة اللاعبين الكبار في سورية، روسيا وأميركا، إلى دور عربي يظلل نشاطهما، ويشرعنه في عملية تشكيل سورية، وليس هناك أفضل من مصر للعب هذا الدور لأسباب كثيرة، أهمها وزن مصر العربي ومكانتها، وليس لأسباب وظروف آنية، تتعلق بحاكمها الحالي ونخبتها السياسية، وهذا الدور سيكون مطلوبا في بناءٍ عليه، يجب أن تختلف حسابات الدور المصري، وعلى الدبلوماسية المصرية التقاط الفرصة بهدف تعزيز دورها الإقليمي، بما ينعكس على أمنها بشكل فعلي، وليس كما تذهب تقديرات متعجلة من أن دعم الأسد وبقاءه سيعزز من أمن النظام الحاكم في القاهرة، على اعتبار أنه نظام شبيه له يعتمد على العسكر، ويحارب الإسلاميين.
يجب أن تبتعد هذه الحسابات عن العاطفة، وما تنطوي عليه من مكايدات لجماعة الإخوان المسلمين، وأن تركّز على ما هو أبعد من ذلك، فبقاء نظام الأسد يعني استمرار حالة عدم الاستقرار في الإقليم بكامله، كما أنه سيعني تعزيزا للوجود الإيراني. ومن يقول غير ذلك يكذب على نفسه، فالأسد أصبح رهينا لإيران، ولا أميركا أو روسيا يعنيهما تفكيك العلاقة بين الأسد وطهران، بقدر ما لهما مصالح معينة، يركزان عليها من دون الاهتمام بأي اعتبارات أخرى.
على مصر أن تدرك أن اللعب في هذا الأمر خطير، فهي ستؤسس لدمار النظام الإقليمي العربي، ليس فقط عبر تدعيم الهيمنة الإيرانية على المشرق العربي، بل أيضاً عبر إعطاء الفرصة لنظام الأسد للعمل على تخريب النظام العربي من الداخل، فهذا النظام فكّك كل علاقاته مع العالم العربي، وما يهمه فقط هو الانتقام من العرب وإذلالهم. ويكفي تحليل الخطابين السياسي والإعلامي لنظام الأسد لاكتشاف حجم الاحتقار الذي يكنه للعرب، بغض النظر عن البلد الذي ينتمون له.
لا المكايدات ولا اللغة الإنشائية تصلح للتعامل مع قرار خطير بهذا الحجم، في حين أن المعطيات هي باتجاه آخر، ولا تجد من يلتقطها للبناء عليها، فلا جيش سورية عربي سوري كما يدعون، بعد أن انشق السنة عنه واستنكف الدروز الخدمة فيه ودفع المسيحيون بدلاً نقدياً عن خدمة أولادهم فيه، وصارت كتائب الزينبيين والفاطميين وأبو العباس وحزب الله تشكل قوات النخبة فيه، ولا سورية (الأسد) دولة مؤسسات حقيقية، تستدعي بالفعل إعادة إنتاجها لإعادة إنتاج المأساة السورية، واستمرار ماكينة القتل والتهميش.
ليس لمصر، أو لأي دولة عربية أخرى، مصالح في سورية، أكثر من المصلحة مع الشعب السوري نفسه المستقر والمتصالح مع دولته. وهذا لن يحصل مع بشار الأسد الذي أخرج ثلاثة أرباع الشعب السوري من وطنيته، ويتوعد في حال استقرار الأمور لصالحه بالانتقام من السوريين فرداً فرداً.
بغض النظر عن اختلافنا مع نظام مصر، ثمة فرصة أمامه للعب دور مؤثر وفاعل في الأزمة السورية، وستكون مكاسبه استراتيجية وبعيدة المدى، وذلك عبر الاصطفاف إلى جانب حقوق الشعب السوري الباقي، وليس نظام الأسد الراحل، ولو بعد سنة أو اثنتين على أبعد تقدير.
إما إذا كانت نخب مصر تعتقد أن عليها ديناً يجب تسديده، فمن المعيب اختصار سورية ببشار الأسد، وشطب الشعب السوري من المعادلة، أما إذا أصررتم فالرجاء أن تغيروا الشعار إلى “من القاهرة إلى بشار الأسد قاتل الشعب السوري”، فالمناورة مكشوفة، ولا داعي لأن تطعمونا جوزا فارغا.
عذراً التعليقات مغلقة