العقلية الإتكالية التي طبعت بميسمها وشماً على قرارات وسلوكيات قيادات المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري ما زالت تفعل فعلها، وتمنعها من اتخاذ مبادرات شجاعة، مبادرات لا تخلو من المخاطرة بالمصالح والسمعة وأمور أخرى على المستويين الشخصي والجمعي.
والخاصية الأساسية في هذه العقلية أنها راهنت، وما زالت تراهن، على جهود ودعم من أعلنوا عن صداقتهم للشعب السوري، انطلاقاً من مسلّمتين رغبويتين هما: تقاطع المصالح والواجب الأخلاقي الملزم باحترام تطلعات وتضحيات الشعب السوري.
ولكن تجربة أكثر من ستة أعوام أثبتت بالبراهين الملموسة، والأدلة القوية، أن الأولويات تتغيّر وتتباين، وكذلك التقاطعات المصلحية. وفي نهاية المطاف تكون الحسابات الخاصة لهذه القوة الإقليمية والدولية أو تلك هي المرجعية التي تتحكّم بتعيين مسارات الخطوات التكتيكية، والأطر العامة لاستراتيجياتها.
ومع انشغال الدول الإقليمية بأولوياتها، وانتقال اللاعبين الأساسيين (الروسي والأميركي) في الوضع السوري إلى مستوى التدخل الميداني، والتأثير المباشر، هيمنت على المعارضين السوريين نزعة توكلية، إن لم نقل استسلامية، كما وصفها الصديق عمر قدور في مقال له نشر في «الحياة» بتاريخ 6 آب (أغسطس) 2017.
جوهر هذه النزعة أن السوريين فقدوا القدرة على التأثير، وأصبحوا خارج دائرة القرار، وما عليهم سوى انتظار ما سيُقرر في شأن مصيرهم من قبل الدول الفاعلة في الملف السوري، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا. وكأن البلد ليس بلدهم، والمصير ليس مصير أجيالهم المقبلة.
والنزعة التوكلية هذه هي وجه من أوجه العقلية الاتكالية المأتي على ذكرها، ونتيجة من نتائجها. ولهذه الأخيرة، الإتكالية، جذورها في الواقع السياسي السوري، تعود على الأقل إلى بداية المرحلة الأسدية الأولى 1970-2000، وهي ما زالت مستمرة في المرحلة الأسدية الثانية 2000-؟.
فاللافت بالنسبة إلى الحركات السياسية خلال هاتين المرحلتين هو أنها لم تمتلك هدفاً ولا برنامجاً لتغيير الحكم، واستلام مقاليده في البلد. بل كانت تمارس نشاطاتها ضمن الهامش المحدود المتاح لها، سواء ضمن «الجبهة الوطنية التقدمية» التي أنشأها حافظ الأسد عام 1972 أم خارجها. ولم تتجاوز أهدافها دائرة المطالب الإصلاحية، والدعوة إلى التغيير الديموقراطي العام. وهذا ما حصل في بداية المرحلة الأسدية الثانية، بخاصة مع انطلاقة ربيع دمشق القصير العمر.
والأمر الذي كان يستوقف، هو أن كل الأحزاب والقوى السياسية السورية المعارضة بالمعنى الأوسع للكلمة، كانت تُسقِط رغباتها وتطلعاتها على الحركات الوطنية العربية الأخرى في المنطقة، سواء الفلسطينية أم اللبنانية أم العراقية.
فقد كانت تشارك في نشاطاتها، وتتفاعل مع نجاحاتها، ولكنها التزمت بالحدود التي كان النظام قد رسمها لها. ولم تعمل من أجل تشكيل حالة سياسية سورية معارضة، تعمل بصراحة من أجل الوصول إلى الحكم، بغية تجاوز مركب الاستبداد والفساد الذي تجسد في الحكم الأسدي بمرحلتيه، هذا باستثناء محاولات عرضية، العمل الشيوعي مثلاً، غالباً ما كانت تُضطهد من جانب المعارضة قبل النظام.
وجاءت الثورة السورية السلمية الشبابية في ربيع 2011، لتقطع مع عقلية المعارضة التقليدية وأدواتها العقيمة، وتطالب بكل وضوح بضرورة إسقاط النظام، وتعمل على ذلك. ولكن من دون وجود قيادة موحدة، تمتلك برنامجاً وطنياً مطمئناً للجميع، وخطة متكاملة تحدد خطوات تجاوز القديم وبناء الجديد.
ومع تأسيس المجلس الوطني السوري في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 كانت هناك إرهاصات لظهور قيادة وطنية سورية. ولكن العقلية الإتكالية ظلت هي المهيمنة، وظن الجميع أن الأمور ستحسم من قبل مجموعة أصدقاء سورية، الأمر الذي لم يحصل كما نعلم جميعاً، بل كانت الضغوطات المستمرة على المجلس، حتى أُرغم على القبول بالائتلاف، ومن ثم أُرغم الأخير على التوسعة، ودائماً كانت العقلية الإتكالية هي المهيمنة والموجهة.
وظهرت المنصات بأسماء دولها الراعية والمروجة. وترسخت نزعة الإستقواء بالدول وأجهزتها على السوريين.
وهكذا حتى وصلنا إلى وضعية أصبح بموجبها الحديث عن إمكان إطلاق مبادرة وطنية تستقوي بالسوريين أولاً نوعاً من الثورية الحالمة، ومكابرة، إن لم تكن مكابدة، مسدودة الآفاق.
ولكن مهما يكن، فقد كشفت الثورة السورية بمبشراتها ومآلاتها الراهنة، بحلوها ومرّها، الغطاء عن المستور. وأكسبت السوريين تجربة عميقة في مختلف الميادين وعلى كل المستويات.
الوضعية التي نعيشها صعبة، بل طاحنة. ولكنها حالة طارئة ستزول، شرط أن يمتلك السوريون ارادة العمل الجماعي والثقة بالمستقبل، ويستفيدوا من تجربة السنوات الصعبة التي كانت. وأن يستثمروا طاقاتهم الشبابية الكبيرة الواعدة في المهاجر والوطن.
ولكن قبل كل شيء نحتاج إلى الثقة بالذات، والثقة بقدرتنا على الوصول إلى مستقبل أفضل، ثقة تقطع مع الإتكال والتواكل، والتسليم والاستسلام.
عذراً التعليقات مغلقة